نظرية تسرّب فيروس كورونا من مختبر صيني غير منطقية

نشر في 25-06-2021
آخر تحديث 25-06-2021 | 00:02
جانب من المصابين بـ«كوفيد19» في مستشفى «ووهان» بالصين
جانب من المصابين بـ«كوفيد19» في مستشفى «ووهان» بالصين
رغم مرور أكثر من سنة على بدء الدراسات لا يزال احتمال إثبات نظرية تسرّب فيروس كورونا من مختبر صيني مساوياً لما كان عليه حين ظهرت هذه النظرية قبل سنة، أي إنه احتمال ممكن نظرياً لكنه مستبعد أكثر من أصل الأمراض المنقولة من البشر إلى الحيوانات.
ثمة قصة غامضة وراء كل وباء! فحين يتمكن العلماء من تفسير الأمراض المعدية، غالباً ما تكون الطبيعة مسؤولة عن نشوئها، وبعد ظهور متلازمة «سارس» في عام 2003، اشتبه العلماء في أن الخفافيش نقلت فيروس كورونا إلى نوع آخر من الثديات، لكنهم عجزوا عن تفسير طريقة ظهوره في إحدى مزارع «فوشان» في مقاطعة «غوانغدونغ» الصينية.

بعد أكثر من عشر سنوات على تلك الموجة الوبائية، توصّل باحثون من «معهد ووهان لعلم الفيروسات» إلى اكتشاف مثير للاهتمام: كان القرويون المقيمون بالقرب من كهوف مليئة بالخفافيش في مقاطعة «يونان» الصينية يحملون مستويات مرتفعة من الأجسام المضادة لمتلازمة «سارس» مع أنهم لم يلتقطوا العدوى يوماً. يستحيل التأكد من مسار «سارس» لقطع تلك المسافة، لكن أصبح العلماء اليوم شبه متأكدين من أن تلك الرحلة بدأت في ذلك الكهف قبل الانتقال إلى نوع آخر من الثديات التي نقلت العدوى إلى الإنسان في نهاية المطاف.

في حالات أخرى، قد تتسرب الفيروسات من المختبرات فعلاً لكن يتم احتواء معظم هذه الحوادث سريعاً، وتبقى الحالات الخطيرة التي تنجم عن نوايا سيئة أو قلة الكفاءة نادرة في هذا المجال. تعود واحدة من الحوادث المعروفة إلى عام 1977، حين ظهرت مجدداً سلالة كانت قد اختفت سابقاً من إنفلونزا الخنازير، وقد اشتقت على الأرجح من انحراف برنامج تلقيح سوفياتي عن مساره الأصلي.

انطلاقاً من هذه المعطيات التاريخية، لم يكن مفاجئاً أن تظهر نظريات حول احتمال تسرّب فيروس «كوفيد19» المستجد من أحد المختبرات أيضاً، لكن لم تكن النظريات هذه المرة مجرّد تخمينات عابرة، بل اعتُبِرت احتمالاً جدّياً برأي عدد من أهم المسؤولين في الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام التي تبحث عن احتمالات جديدة.

حتى اليوم، تَقِلّ التقارير العلمية التي خضعت لمراجعة موضوعية من علماء آخرين ودعمت نظرية تسرّب الفيروس من المختبر، وفي المقابل، تتعدد الدراسات الجديرة بالثقة التي تشير إلى أصل «كوفيد19» الطبيعي، فوفق دراسة شاملة نشرتها مجلة «الطبيعة» في مارس 2020،

لا يمكن اعتبار «المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة 2» نتاجاً للعمليات المخبرية أو فيروساً تم التلاعب به عمداً، فأعلن المشرف على الدراسة، كريستيان أندرسون، في أحد تصريحاته أن «الاستنتاجات التي توصلت إليها الدراسة ترسّخت بفضل أدلة إضافية وافرة».

لنأخذ مثلاً التقرير المرتبط بعمّال المختبر المرضى، حيث يتساءل ستيفن غولدستاين المتخصص بعلم الفيروسات التطوري: «ما معنى أن يمرض ثلاثة أشخاص من أصل عدد كبير من الباحثين ويصابوا بأعراض مشابهة للإنفلونزا في موسم الزكام»؟ خسرت العناوين الرنانة التي تسلّط الضوء على تلقي العمّال رعاية طبية في المستشفى أهميتها عند أخذ سياق الأحداث بالاعتبار، ففي الصين، تُقدَّم معظم خدمات الرعاية الصحية في المستشفيات وتكون التقارير الطبية إلزامية للتغيّب عن العمل، وبعبارة أخرى، تُعتبر زيارة المستشفى في «ووهان» مرادفة للذهاب إلى عيادة الطبيب في الولايات المتحدة.

أمضت شيريل روفير 35 سنة وهي تعمل عالمة كيمياء في «مختبر لوس ألاموس الوطني» وهي متخصصة بالحد من التسلح، وانشغلت لسنوات بتحليل وضع البلوتونيوم في البيئات المخبرية السرية والخاضعة لتدابير مشددة، تقول روفير: «إذا مَرِض هؤلاء الأشخاص أثناء عملهم على برنامج أسلحة أو عند إجراء أبحاث طبية تتطلب منهم التلاعب بالكائنات أو الأمراض، فما كانوا ليذهبوا إلى المستشفى».

وحتى المصادفة المرتبطة بوقوع المختبر بالقرب من بؤرة تفشي الفيروس تبقى ضعيفة، فلا أحد يستطيع التأكيد على أن الفيروس ظهر في الأصل في مدينة «ووهان»، بل إنه رُصِد هناك للمرة الأولى بكل بساطة، كما حصل مع متلازمة «سارس»، ربما ظهر الفيروس في الأصل على بُعد مئات الأميال ولم يلاحظه أحد رغم انتقاله إلى البشر نظراً إلى غياب التطور في النظام الطبي الريفي في الصين.

للتأكيد على نظرية تسرّب الفيروس من أحد المختبرات، يُفترض أن يكون المختبر في «ووهان» قد عثر على فيروس مُعد جداً وجديد بالكامل في البرّية واحتفظ به من دون إخبار أحد، أو ربما عمد العلماء إلى هندسة ذلك الفيروس بطريقة قد تصدم العلماء في المختبرات الأميركية الأكثر تطوراً عبر إحراز تقدّم يحتاج إلى عقود خلال بضع سنوات.

في المرحلة اللاحقة، يُفترض أن يحصل اختراق كارثي لبروتوكول السلامة، فيصاب عامل واحد أو أكثر في المختبر بالعدوى، ووفق هذه النظرية، يُفترض ألا يلاحظ أحد ما حصل، فيخرج المصابون من المبنى بكل بساطة حين ينتهي دوامهم.

في هذا السياق، يقول بيتر بن إمبارك، خبير الأمن الغذائي في منظمة الصحة العالمية والمُكلّف بالسفر إلى «ووهان» للتحقيق في أصل الفيروس: «ثمة حاجة إلى إجراء الدراسات اللازمة لأخذ فكرة أفضل عن أصل الفيروس، تقضي هذه المقاربة بعدم متابعة جميع أنواع الفرضيات المطروحة»، فوفق المعطيات العلمية، يُعتبر «كوفيد19» فيروساً «طبيعياً» لا سلاحاً بيولوجياً، لكن بن إمبارك يعترف بأن «الحوادث ممكنة»، وهذا ما يمنع العلماء من تجاهل احتمال تسرّب الفيروس من أحد المختبرات، وتعليقاً على نظرية تسرّب الفيروس من المختبر، يقول بن إمبارك: «لم تتوصل مجموعة الأدلة المتزايدة إلى هذا الاستنتاج».

خلال مؤتمر صحافي في 9 فبراير الماضي، أعلن بن إمبارك وزملاؤه، بعد أسابيع من العمل الميداني، أنهم جمعوا أدلة كافية لاستبعاد نظرية تسرب الفيروس من المختبر، وتبدو الاستنتاجات العلمية التي توصّلت إليها منظمة الصحة العالمية مقنعة، لكن ذلك الاستنتاج يثبت برأي الكثيرين أن العكس صحيح نظراً إلى دعم المنظمة الكبير للصين، لكن الموظفين في منظمة الصحة العالمية اعترفوا بأن الحكومة الصينية أعاقت مسار التحقيق، وحاولت بكين التحكم في ما يستطيع الباحثون والصحافيون رؤيته، وعاقبت أستراليا بعدما دعت كانبيرا إلى إجراء تحقيق مستقل حول أصل فيروس كورونا.

لكنّ تكتّم الصين وميلها إلى إخفاء المعلومات لا يثبتان وجود مؤامرة حقيقية، بل إن هذا الارتياب هو جزء مألوف من تصرفات بكين.

حاولت الصين إخفاء تفشي متلازمة «سارس» سابقاً، فاستخفت بعدد الإصابات ومنعت الباحثين التابعين لمنظمة الصحة العالمية من زيارة بؤرة الفيروس الأصلية، وفي هذا الإطار، صرّح خبير في السياسة الصينية لصحيفة «تايمز» عام 2003 بأن «سارس» تحوّل إلى مشكلة سياسية خطيرة بالنسبة إلى الحكومة، بالإضافة إلى المشاكل الطبية التي يطرحها.

أعاد التاريخ نفسه في عام 2020، فقمعت السلطات الصينية كل من حاول دق ناقوس الخطر حول تفشي نسخة محتملة ثانية من «سارس»، منهم الطبيب الراحل لي وين ليانغ، وباختصار، يُعتبر إخفاء المعلومات جزءاً اعتيادياً من تصرفات الحزب الشيوعي الصيني.

خلال السنة الماضية، انقسم الباحثون والعلماء وخبراء الصحة العامة بين معسكرين من حيث آرائهم حول أصل «كوفيد19»، إذ يقول معظمهم إن الفيروس طبيعي على الأرجح وقد تكون النظريات المرتبطة بمعهد ووهان لعلم الفيروسات تفسيراً محتملاً لما حصل لكنها تبقى مستبعدة، وفي المقابل تظن المجموعة الثانية، وهي تمثّل الأقلية، أن النظريتين محتملتان لكن ثمة حاجة كبرى إلى إجراء دراسات إضافية لإثبات نظرية تسرّب الفيروس من المختبر.

يصعب تكذيب أي من المعسكرين، لكن لا يمكن اعتبار جميع الأبحاث الحاصلة متساوية، ويصعب أيضاً تجاهل ميل الجمهوريين في الولايات المتحدة إلى تفضيل نظرية تسرّب الفيروس من مختبر صيني انطلاقاً من نظريتهم الدائمة حول التهديد الذي تطرحه الصين على الأمن العالمي.

هل أخطأ البعض حين استبعد صراحةً نظرية تسرّب الفيروس من المختبر منذ مرحلة مبكرة؟ وهل يمكن اعتبار أي نظرية صحيحة حتى لو طرحها أصحاب نظريات شائبة أو لاعبون سيئون يحاولون تحقيق أهدافهم السياسية الخاصة؟ هذا ممكن طبعاً، لكن ذلك لا يعني أن هذا الاحتمال لم يخضع لتحليلات كافية، فلم تحصل أي مؤامرة لإسكات الأبحاث أو التخمينات حول مختبر «ووهان».

ورغم مرور أكثر من سنة على بدء الدراسات، لا يزال احتمال إثبات نظرية تسرّب الفيروس من مختبر صيني مساوياً لما كان عليه حين ظهرت هذه النظرية قبل سنة، بعبارة أخرى، إنه احتمال ممكن نظرياً لكنه مستبعد أكثر من أصل الأمراض المنقولة من البشر إلى الحيوانات.

في مطلق الأحوال، يبقى أصل هذا الفيروس مهماً، فإذا كانت بكين مذنبة فعلاً باعتبارها السبب الأصلي لانتشار فيروس كورونا الجديد، فهي تستحق أن تواجه عواقب أفعالها، وحتى لو لم تكن الصين مذنبة، فلا بد من محاسبتها لأنها أخفت المعلومات.

إذا كانت الكهوف في مقاطعة «يونان» الصينية والأنظمة البيئية المحيطة بها مسؤولة عن نشوء نوعَين مُعديَين جداً من فيروسات كورونا خلال عقدَين من الزمن، فلا أحد يستطيع توقّع توقيت ظهور فيروسات مماثلة مستقبلاً أو تحديد مكان نشوئها، وإذا انتقل فيروس «كوفيد19» بين حيوانات متنوعة وحسّن قدرته على نقل العدوى إلى البشر، كما فعلت الفيروسات السابقة، يمكن اعتبار هذا العامل مؤشراً آخر على تداعيات تدخّل البشر في الحياة البرية ومسؤوليتهم عن ظهور مسببات أمراض جديدة بوتيرة متسارعة ومقلقة، وهذا الوضع يتطلب إعادة النظر بطريقة استقرار البشر على كوكب الأرض وكيفية السيطرة على الطبيعة البرية.

يُعتبر هذا الاحتمال مقلقاً أكثر من الاكتفاء بلوم بكين على كل شيء، فقد يكون التأكد من أصل فيروس «كوفيد19» مستحيلاً، لكن من الضروري أن نسمح للعلم،

لا الضجة الإعلامية أو مشاعر القلق، بتحديد السيناريوهات المحتملة.

في هذا السياق، تقول العالِمة شيريل روفير: «نشعر جميعاً بأننا فقدنا السيطرة على كل شيء، ولفهم حقيقة ما يحصل، يجب أن نفهم أصل المشكلة».

* جاستن لينغ - فورين بوليسي

جاستن لينغ - فورين بوليسي

لم يكن مفاجئاً أن تظهر نظريات حول احتمال تسرّب «كوفيد19» من أحد المختبرات لكن لم تكن النظريات هذه المرة مجرّد تخمينات عابرة

إذا كانت الكهوف في مقاطعة «يونان» الصينية مسؤولة عن نشوء نوعَين مُعديَين من فيروسات كورونا خلال عقدَين من الزمن فلا أحد يستطيع توقّع توقيت ظهور فيروسات مماثلة مستقبلاً
back to top