نشأت المحكمة الجنائية الدولية عام 1998 على شكل مبادرة عالمية ظاهرياً، لكن دائماً كان محور نشاطاتها أضيق مما يوحي به هدفها المعلن، فحتى اليوم، وجّهت هذه المحكمة اتهامات ضد 44 شخصاً، جميعهم من الأفارقة، وفي السنوات الأخيرة، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات حول قضايا تدور في أماكن خارج إفريقيا، بما في ذلك أفغانستان وجورجيا والأراضي الفلسطينية، لكنها تابعت التركيز على قارة واحدة، إذ تتعلق عشرة تحقيقات ناشطة من أصل 14 بإفريقيا.ثارت دول إفريقية عدة ضد المحكمة الجنائية الدولية، لا سيما جنوب إفريقيا التي حاولت الانسحاب منها في عام 2016، ويظن البعض أن تردد المحكمة في إجراء تحقيقات حول الدول الغربية هو دليل على طابعها «الإمبريالي»، وتدرك المحكمة هذا الواقع، لذا بدأت في السنوات الأخيرة تتجاوز نطاق «الجنوب العالمي» وتستهدف مواطنين من الدول الغربية لإخضاعهم للتدقيق، لكن هذه الخطوات أدت إلى نشوء ردود أفعال غاضبة، ففي عام 2020، فرضت الولايات المتحدة عقوبات استباقية على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية غداة فتح تحقيق في أفغانستان قد يطول أسماءً أميركية. ودعت مجموعة من الديمقراطيات الليبرالية الغربية المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إلى عدم التحقيق بجرائم الحرب المزعومة التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، على اعتبار أن هذا النوع من التحقيقات يتجاوز صلاحيات المحكمة.
يبدو أن انحراف المحكمة عن مسارها التقليدي الذي يكتفي بمحاسبة الأفارقة يزيد المخاطر المطروحة على مستقبلها وقدرتها على العمل، حيث تتلقى المحكمة الجنائية الدولية التمويل في المقام الأول من الديموقراطيات الليبرالية التي بدأت تتحداها اليوم علناً، لكن إذا فشلت المحكمة في توسيع نطاق نشاطاتها فعلاً، فستبقى رمزاً لنفاق النظام الدولي الليبرالي، وفي شهر فبراير الماضي، انتخبت الدول الأعضاء ثالث مدع عام للمحكمة الجنائية الدولية، وهو المحامي البريطاني كريم خان الذي أقسم اليمين لتولي مهامه في 16 يونيو، حيث يجب أن يتمسك المدعي العام الجديد بالمسار نفسه ويجري تحقيقات شاملة حول جميع من ارتكبوا أعمالاً وحشية ويحاكمهم، بغض النظر عن مكان وقوع الارتكابات وحجم المعارضة التي يواجهها.
المحكمة تفتح أبوابها
فضّل أول مدعٍ عام، وهو المحامي الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، بين العامين 2003 و2012، التركيز على إفريقيا والمتّهمين الأفارقة. أثارت تدخلات المحكمة استياء عدد من الدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي الذي اعتبر تحركات المحكمة عائقاً أمام حل الصراعات بطريقة سلمية، كذلك، دعمت البلدان الإفريقية منح رؤساء الدول الحصانة ضد أي محاكمة أثناء وجودهم في الحُكم، بما يتماشى مع القانون الدولي المتعارف عليه، لكن قضيتين محددتين أدتا إلى تسليط الضوء على الشرخ القائم بين الدول الإفريقية والمحكمة الجنائية الدولية: إصدار مذكرات توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير في العامَين 2009 و2010 على خلفية تُهَم مرتبطة بالإبادة الجماعية في دارفور، واستدعاء الرئيس الكيني الراهن أوهورو كينياتا في العام 2011 (كان نائب رئيس الوزراء حينها) بتُهَم تتعلق بأعمال العنف المرتبطة بالانتخابات في العامين 2007 و2008.بعد أوكامبو، حاولت المحامية فاتو بنسودا من غامبيا ردم الفجوة بين المحكمة وإفريقيا عبر توسيع نطاق التحقيقات بما يتجاوز هذه القارة. ففتحت تحقيقات في أفغانستان، وبنغلادش، وميانمار، وجورجيا، والأراضي الفلسطينية.أثبتت بنسودا خلال عهدها استعداداً متزايداً لتحدي الدول الكبرى حتى لو جازفت بذلك بتلقي ردود أفعال عنيفة وتحمّل عقوبات مستهدفة، كان قرارها بعدم محاكمة الجنود البريطانيين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في العراق محيّراً، لكنّ التحقيقات الحاصلة في أفغانستان والأراضي الفلسطينية ستقود المحكمة إلى المجهول وقد تُحدد مصير خَلَفها.المدعي العام الجديد
سيخضع المدعي العام الجديد لأعلى درجات التدقيق بناءً على الخطوات التي سيتخذها في المرحلة المقبلة، وعلى عكس أسلافه الذين انتُخِبوا بالإجماع، تم تعيين خان غداة دورة انتخابية صاخبة حيث وجدت الدول الأعضاء في المحكمة صعوبة في التوافق حول مرشّح واحد، وبعد جولات متعددة من المفاوضات، نظّمت تلك الدول انتخابات عن طريق الاقتراع السري، ثم انتُخِب خان بعد الجولة الثانية من التصويت.وصل خان إلى منصبه الجديد وهو يحمل خبرة واسعة في القانون الجنائي الدولي، وقد سبق أن عمل في عدد من المحاكم الدولية كتلك التي تتعامل مع دول مثل كمبوديا ورواندا ويوغوسلافيا السابقة، كذلك كان خان في الماضي محامي دفاع ومدعياً عاماً ومستشاراً للضحايا، وعمل أيضاً كمحامي دفاع لمصلحة عدد من المشتبه فيهم المعروفين مثل تشارلز تايلور من ليبيريا، وويليام روتو من كينيا، وسيف الإسلام القذافي من ليبيا، وجان بيار بيمبا من جمهورية كونغو الديمقراطية، وفي عام 2018، أصبح رئيس فريق الأمم المتحدة المسؤول عن التحقيق بالجرائم التي ارتكبها تنظيم «داعش» في العراق.ستتجاوز أصداء ما يفعله خان بالتحقيقات المستمرة في أفغانستان والأراضي الفلسطينية حدود لاهاي، إذ يُركّز التحقيق الذي تجريه المحكمة الجنائية الدولية في أفغانستان على جرائم مزعومة ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتُكِبت في ذلك البلد منذ مايو 2003، ومن المتوقع ألا يقتصر التحقيق على نشاطات حركة «طالبان» والقوات الوطنية الأفغانية، بل يشمل أيضاً عناصر من الأوساط العسكرية والاستخبارية الأميركية، الولايات المتحدة ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، على عكس أفغانستان، لذا قد تُعتبر ارتكابات الأميركيين هناك جزءاً من صلاحيات المحكمة، وهذا التحقيق دفع إدارة ترامب إلى فرض عقوبات على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية في محاولةٍ منها لتجميد أرصدتهم ومنعهم من دخول الولايات المتحدة.ألغت إدارة بايدن تلك العقوبات حديثاً، لكن لا يزال المسار المرتقب شائكاً بالنسبة إلى خان، فإذا أصرّ على متابعة تحقيقات تستلزم وضع مسؤولين وعسكريين أميركيين تحت التدقيق، فقد يجازف بتأجيج التوتر في علاقته مع الولايات المتحدة. تُعتبر معارضة المحكمة الجنائية الدولية مسألة خاصة بالحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة، وقد رفض الرؤساء من الحزبين معاً دعم تلك المحكمة أو التعاون معها، لكن إذا رضخ خان للضغوط السياسية التي تمارسها الدول الكبرى، فقد يسيء إلى صورة المحكمة ويُضعِف شرعيتها بدرجة إضافية.يُركّز التحقيق الذي فتحته المحكمة الجنائية الدولية في الأراضي الفلسطينية على جرائم مزعومة حصلت في الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، منذ يونيو 2014، وهو يطرح تحديات مشابهة على خان، ويظن المسؤولون في مكتب المدعي العام أن العناصر الإسرائيلية والجماعات الفلسطينية معاً ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة والضفة الغربية. إسرائيل ليست جزءاً من المحكمة، لكنّ الأراضي الفلسطينية منتسبة إليها، لذا تستطيع المحكمة أن تجري التحقيقات وتتّهم الإسرائيليين بناءً على تحركاتهم هناك، وقد يستكشف هذا التحقيق مدى مسؤولية القوات الإسرائيلية عن ارتكاب الجرائم خلال الحرب في غزة في عام 2014، ومسؤولية «حماس» وجماعات فلسطينية أخرى عن ارتكاب جرائم حرب عبر إطلاق الصواريخ نحو المدن الإسرائيلية عشوائياً، كذلك، قد يواجه المسؤولون الإسرائيليون تُهَماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية نتيجة توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وقد يتوسع التحقيق أيضاً ليغطي أعمال العنف الأخيرة هذه السنة.واجهت المحكمة الجنائية الدولية ردود أفعال عنيفة بسبب هذا التحقيق في الأراضي الفلسطينية، ومن المتوقع أن تزداد هذه الضغوط حين يتسلم خان منصبه الجديد، فقد أصرّ بنيامين نتنياهو، حين كان رئيس وزراء إسرائيل، على اعتبار ذلك التحقيق جزءاً من مظاهر معاداة السامية، كذلك، أدانت أستراليا وكندا وألمانيا والولايات المتحدة ودول أخرى هذا التحقيق لأن المحكمة لا تملك برأيها أي صلاحيات للتعامل مع المواطنين الإسرائيليين بما أن إسرائيل ليست منتسبة إليها، وترفض هذه الدول أيضاً اعتبار فلسطين دولة قادرة على الانتساب إلى المحكمة الجنائية الدولية وإحالة قضاياها إليها. سيضطر خان لاتخاذ قرار واضح حول الإصرار على متابعة التحقيق أو إنهائه، لكنّ الرضوخ لهذه الضغوط سيسيء إلى المحكمة المحاصرة أصلاً. ستبدو المحكمة الجنائية الدولية في هذه الحالة مؤسسة تعتمد نظاماً قانونياً دولياً مزدوجاً، فتحاسب بعض الدول وفق معايير لا تطبّقها على دول أخرى.يجب أن يحرص خان على إخضاع جميع الأطراف المتورطة في الصراعات القائمة في أفغانستان والأراضي الفلسطينية لتحقيقات منصفة وشاملة ومحاسبتها عند الحاجة. لقد أصبحت تحركات المحكمة ضرورية في هذين الملفَين معاً، كما تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية الملجأ الأخير، إذ تستطيع الدول دوماً أن تجري التحقيقات وتحاكم جماعاتها بنفسها في المرحلة الأولى، لكن من الواضح أن إسرائيل والولايات المتحدة ليستا مستعدتَين لاتخاذ هذه الخطوة.تبدو المخاطر المطروحة كثيرة اليوم، وتثبت المحكمة الجنائية الدولية ونظام العدالة الدولي عموماً في لاهاي تناقضات النظام العالمي الليبرالي الذي يدعم المساواة نظرياً لكنه يبرئ الغرب عملياً في حين يكتفي بمعاقبة بقية الدول وإدانتها، لكن المحكمة الجنائية الدولية تستطيع أن تزيد شرعيتها وتحرز التقدم المطلوب تمهيداً لتوسيع مظاهر العدالة في العالم، حيث يخضع مرتكبو الجرائم الوحشية للمحاسبة بغض النظر عن هويتهم، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يتحمّل خان كمية هائلة من الضغوط الحتمية ويستهدف الغربيين المتّهمين بارتكاب أفظع الجرائم التي يمكن تصوّرها. • عمر با – فورين أفيرز