المكتبات العامة والخاصة في المدارس والجامعات، وحيث تباع الكتب والمجلات، صارت مقفرة في وقتنا الحاضر لا يزورها أحد إلا الباحثون عن الأدوات القرطاسية أو المكتبية، ولهذا فإن زوار "كهوف" الكتب والمخطوطات الورقية هذه الأيام هم في الغالب من فئة كبار السن، الذين تعودوا العيش في عالم الكتب الورقية، والسباحة في بحور الأوراق المصفرة، والتلوث بغبار المطبوعات، والغوص في روائح الأحبار. والهجرة المعاكسة والهروب الجماعي من المكتبات الورقية خلال العقدين الأخيرين تعد نتيجة حتمية لوفرة تكنولوجيا الاتصالات المتمثلة بتلفونات ذكية وكمبيوترات محمولة قللت على الناس وقت الاتصال وسهلت البحث عن أي معلومة، ولا يستمتع بمثل هذه الأجهزة إلا من ولد وبين يديه كل أشكال التكنولوجيا وفي عقله كل أنواع المعلومات المعلبة، أما كبار السن فلم يتعود كثير منهم على هذه التكنولوجيا إلا اضطراراً.
في المكتبات الورقية "كانت لنا أيام" وذكريات حيث اتخذ بعضنا من إحدى زواياها منطلقاً للدراسة والتحضير للامتحانات، والبعض الآخر اتخذها ملاذاً آمنا للقاء "الأحبة"، وثالث اتخذها مرتعاً خصباً لتشكيل فرق ذات اتجاهات سياسية، إذ إن كثيراً ما التقى بعضنا داخل وخارج الكويت بطلاب علم عرب كانوا يدّعون خلال غربتهم معارضة أنظمة بلدانهم، وينوون تشكيل روابط واتحادات للطلبة العرب، وهي تجمعات طلابية لا تخرج جهودها في الغالب عن التنديد والاستنكار، لأنها لا تملك من سطوة المال إلا ذل السؤال، ولا من قوة الصيت إلا الصوت. ولهذا لا يمر وقت طويل حتى "تتفركش" مثل هذه المشاريع الطلابية بسبب كثرة "العيون" الموالية للأنظمة الاستبدادية بين الطلبة، ورأيت بنفسي، والأمثلة الحية لاتزال ماثلة أمامي أثبتت لي ولغيري من الدارسين في الخارج أن غالبية الطلبة المؤسسين لهذه التجمعات توقفوا عن أسلوبهم المعارض بعد أن ضعفوا أمام إغراءات المال والوظيفة والمناصب بعد التخرج مباشرة. خلال دراستنا في جامعة الكويت التي امتلأت بطلبة من كل الجنسيات، اكتسبنا خبرة عرفتنا بأشكال من الطلبة الوصوليين والانتهازيين وعملاء مخابرات لبلدانهم، وتعرفنا على طلبة كانت تفوح من اتجاهاتهم الفكرية رائحة اللعب على حبال السياسة، فكانت هذه الظروف بمنزلة جرس إنذار للابتعاد عنهم والتركيز على الدراسة. ولهذا كنا متسلحين بهذه الخبرة في الغربة، منعتنا من الانجراف مع تيارات المعارضة المزيفة، فهناك في الغربة عرفنا طلبة كانوا يتلقون بدلات مالية أكثر من غيرهم من الطلبة من الجنسية نفسها، واكتشفنا أنها بدلات تقدم لمن يسدي "خدمات جليلة" لأنظمة بلدانهم تحت مسمى بدل انتقال، أو بدل "سمعة"، أو بدل عدوى، أو بدل خطورة، أو غيرها من أغطية التجسس على الطلبة، وعرفنا أيضاً كيف كانوا يحاولون تأسيس اتحادات طلابية لمعرفة الاتجاهات و"النوايا" السياسية للطلبة المغتربين، وتأسيس صحف طلابية لجمع الأخبار ونشرها في هذه الصحف، ثم إرسال "غير الصالحة للنشر" إلى الأجهزة الأمنية في بلدانهم إما مباشرة أو عبر السفارات، ولا أستثني من القائمة دولة عربية أو إسلامية واحدة. وإذا كنا لا نستثني من قائمة العملاء أحداً يتمتع بمنصب سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي مرموق، حتى لو كان ممثلاً للشعب، فكيف يثق المرء بسرعة إمكانية القضاء على الفساد وإنقاذ الوطن من حافة الانهيار؟
مقالات - اضافات
بقايا خيال: قناص المعارضة
25-06-2021