وجهة نظر: عصر انحطاط جديد
كان أحد الكتّاب في ثمانينيات القرن الماضي يكتب زاوية صحافية عنوانها "عصر الانحطاط"، وكان يرصد فيها كل ما يراه انحطاطاً عن الأعراف أو تدنياً عن القوانين، وبغض النظر إن كان صادقاً في رصده، وما كان يكتبه رصداً فعلياً لبعض زوايا الانحطاط أو أنه كان يساهم في تكريس الانحطاط برصد ما لا يستحق أن يرصد وإهمال ما هو انحطاط حقيقي، فقد كان العنوان جميلاً ولافتاً على كل حال، دون أن ننكر بعض الوظائف السلبية لبعض العاملين في الإعلام قديماً وحاضراً ومستقبلاً، فالتكسب السياسي والاجتماعي حاضر بالأمس واليوم والغد والأقلام المأجورة أو المعروضة للإيجار موجودة دائماً، (والشراية) موجودون أيضاً أفراداً ومجاميع ودولاً.لكن السؤال الذي يجيب عن نفسه بنفسه: ماذا سيكتب أي كاتب عن عصر الانحطاط الحالي إن أراد الكتابة بصدق ودقة ودون أن يكون تابعاً لأحد أو مأجوراً من أحد؟ وماذا سيذكر أو يترك إن أراد أن يكون شاهداً أميناً على هذه الفترة التي لا يمكن أن تكون (في نظري) إلا من أسوأ فترات البشرية وأكثرها انحطاطاً وتخلفاً وسوقيةً على معظم الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى التجارية؟كيف لا وقد ساد الكذب والنفاق والشهوات وقسوة القلوب وقطع الرحم وفساد الذمم والضمائر، وتراجع الصدق والشهامة والصبر والابتسامة النقية والكلمة الصادرة من القلب والمواقف النبيلة (والفزعة) التلقائية، واختفت الكثير من الصفات التي ترقى بجودة الحياة الى أعلى درجاتها، وترقى بالعلاقات بين الناس إلى أعلى مستوياتها.
دعك مما يجري من جهر بالمعاصي إلى درجة سمجة تأنفها حتى القطط والحيوانات الضالة، ومن ذلك ما ينتشر من إدمان المخدرات إلى مرحلة أصبحت ظاهرة واضحة المعالم والصور، ودعك من الجرائم التي ترتكب لأتفه الأسباب وبلا أسباب أيضاً في مجتمعات محافظة اتسمت بالكثير من الصفات الأخلاقية والقيمية حتى الماضي القريب، ودعك من الكثير من الموبقات التي لا يقرها عقل. ربما يكون جيلنا والجيل الذي قبله قد عاش حياته بالطول والعرض لكن بمواصفات كانت خاضعة لبعض المفردات القيمية مثل: عيب، وحرام، ولا يجوز، واحترام الكبير (واستر حالك، واستح على وجهك)، فكانت مثل هذه المفردات تتحكم بأفعالنا الى حد كبير دون إنكار بعض الموبقات التي كانت منتشرة بيننا كفئة عمرية شبابية، لكن قاعدة (إذا بليتم فاستتروا) وأخواتها كانت السائدة في المجتمع وكانت تجعل مثل هذه الموبقات محدودة الأثر والعدد بسبب بعدها عن العلانية وحصرها بحالات وأوقات ضيقة، مما ساهم في سيادة مستوى مقبول من الرقي والمبادئ والسلوك الحسن والتي أدت في النهاية الى القدرة على بناء أسر ذات قيم قادرة على الصمود في وجه الموبقات، فلم تتجاوز حالات الطلاق والتفكك الأسري وانحراف الأبناء مراحل خطيرة أو قريبة من الخطر.لكن ينتابني الخوف والانقباض والرهبة والحزن حين أحاول التفكر والتأمل في المستقبل القريب والصور الاجتماعية المتوقعة والمواصفات الأخلاقية التي ستحكم العلاقة بين الناس في قادم السنوات، خصوصا أننا مقبلون على تحول كبير بالانحطاط الذي ستكون بعض صوره مقبولة اجتماعياً ومقننة رسمياً وبأحجام تتجاوز الخيال بفضل سعي شيطاني ماسوني دؤوب لنشر المثلية والإلحاد وبقية وسائل الدمار الكبرى وفرضها على الحكومات، وهي وسائل ستقضي على آخر الصفات الآدمية ولا تُبقي للإنسان حدّاً أدنى من احترام الذات.