جنبلاط يفتح باب المصالحات... تحصين «البيئات» في مواجهة «الانهيار المديد»
كل القوى اللبنانية أصبحت على قناعة بأن الأزمة طويلة والانهيار مديد. الأفق السياسي مسدود، وما كانت قد ذكرته "الجريدة" قبل أيام عن دخول لبنان في مرحلة رفع الدعم بحكم الأمر الواقع أصبح مؤكداً وعلى ألسنة مختلف الشخصيات السياسية البارزة، وآخرهم أمين عام حزب الله حسن نصرالله، الذي لم يقدّم حلاً جديداً للأزمة بل في توصيفه لها منحها أمداً طويلاً، داعياً إلى الاستعداد لمواكبة تلك الانهيارات، ومنع حصول أي توتر في الشارع أو تجنب الذهاب إلى انفجار إجتماعي لا يكون أحد قادراً على ضبطه. كلام نصرالله واضح في تعبيره عن خشيته من مثل هذه التطورات، لذلك دعا إلى التهدئة وعقد التسويات ومنع تفاقم التوتر. يريد حزب الله في هذه المرحلة أن يبقي على الوضع كما هو خوفاً من أن يتدهور أكثر.سياسة المصالحات تتمدد وتتوسع، هذه الصورة التي رسمها اللقاء الدرزي الذي عقد في منطقة خلدة لعقد مصالحة بين وليد جنبلاط وطلال أرسلان ووئام وهاب.
يؤكّد هذا المسار ما كان قد قرأه وليد جنبلاط قبل الجميع في ضرورة تحصين البيئات الاجتماعية الداخلية خوفاً من الذهاب إلى الأسوأ. معروف جنبلاط بحدسه الاستشرافي، والذي كان يدعو دائماً لإبرام تسوية وتشكيل حكومة للملمة ما تتمكن من الواقع المنهار، أما بحالة استمرار العرقلة والتعطيل فلا بد من ترتيب الأوضاع داخل البيئات المختلفة، وهو ما أقدم عليه في الساحة الدرزية لمعالجة كل المشكلات العالقة ومنع استمرار الخلاف الذي يمكن أن يشكل ثغرات تتسلل منها حوادث أمنية.انطلاقاً من هذه المسؤولية افتتح جنبلاط عصر المصالحات على الرغم من الاحتفاظ بالخيارات السياسية الواضحة وعلى الرغم من الاختلاف السياسي، لكن المرحلة هذه تقتضي معالجة كل المشكلات الأمنية العالقة. تأتي المصالحة الدرزية بعد سنوات على توتر بين الأطراف منذ حادثة الشويفات في عام 2018 بين مناصرين لأرسلان ومناصرين لجنبلاط، وبعد حادثة قبرشمون بين الطرفين أيضاً على خلفية زيارة رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل إلى الجبل والتي اتخذت طابع الاستفزاز السياسي والاجتماعي، ووضعت في خانة محاولة اختراق الساحة الدرزية.يشبه الدروز أنفسهم بـ"طبق النحاس" فمن أي مكان ضربته "يرنّ". هذا المثال البسيط ينطوي على عمق يشرح الى حد بعيد بسيكولوجية الدروز في الأزمات والمتاعب. عندها تغيب كل الانقسامات السياسية والاختلافات والصراعات، تسقط جميعها لمصلحة وحدة الموقف والدفاع عن النفس. وفي يقينهم أنهم أساس لبنان، ومن أوائل المطالبين باستقلاله منذ القرن السابع عشر أيام الأمير فخر الدين، وبالتعاون مع الموارنة في تلك الفترة. يستندون إلى التجربة التاريخية لإثبات أن ما يصيب الدروز يصيب جبل لبنان ككل، وما يصيب الجبل ينعكس على لبنان الكبير. لا يدخل في الحساب هنا الجانب العددي لهذه الطائفة الصغيرة، تأثيرهم وفعاليتهم ذات طابع معنوي يتمتع بأثر سياسي. لم يخل تاريخ الدروز من الانقسامات والتي لا تزال مستمرة إلى اليوم. خلافات وصراعات كلها "يُفترض" أن تنتهي عند استشعار الخطر على الطائفة أو على البلد.تحت عنوان الخوف على مصير البلد ينتهج جنبلاط سياسة التهدئة مع الجميع. وهو صاحب قناعة أن أي اهتزاز في جبل لبنان سينعكس بشكل كامل على البلد بأكمله، لذلك يولي "أمن الجبل" أولوية خاصة. يأتي اللقاء متزامناً مع ضخ كمية كبيرة من المعلومات حول دور سوري في لبنان خصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية. يسعى أرسلان ووهاب للاستفادة من هذه الأجواء لإشاعة صورة "الانتصار" السياسي الذي يحققانه. يستهزئ جنبلاط بهذا الكلام ويضحك، يضعه في خانة الطفولية السياسية، لأن المسؤولين السوريين غير قادرين على الخروج من منازلهم بدون إذن من جهات متعددة، والحكومة غير قادرة على العودة إلى السويداء أو درعا أو إدلب أو حتى دمشق بشكل كامل. وفي اللقاء طرح أرسلان، الذي دائماً كان يسعى إلى الحصول على نصف المقاعد الدرزية باعتباره الزعيم الدرزي الثاني، مسألة الوظائف الدرزية في الدولة والمناصب، لكن جنبلاط أصر على معالجة المشاكل بدون اللجوء إلى مبدأ المقايضة.فتح أيضاً البحث في استحقاق انتخاب شيخ العقل إذ تنتهي ولاية الشيخ الحالي نعيم حسن في نوفمبر المقبل. حاول أرسلان مجدداً طرح توحيد مشيخة العقل بشرط أن يوافق جنبلاط على انتخاب مرشح أرسلاني لهذا المنصب، عملاً بالتقليد القديم في المداورة بين الجنبلاطيين والأرسلانيين والذي أرساه الشيخ محمد أبو شقرا في عام 1970.لا يبدو أن المصالحة ستقود إلى أي تغيير سياسي، وهي ليست مؤشراً على حصول متغيرات في التوجهات وفق ما تشير مصادر الطرفين. لكن بلا شك سيكون لها انعكاسات على الوضع العام، فجنبلاط سيرتاح من أعباء كثيرة كانت تقلق البيئة الداخلية، وسيكون ذلك في مصلحته.