بعض من الجنون *
![خولة مطر](https://www.aljarida.com/uploads/authors/982_1671286347.jpg)
كثيرون منا بقيت في ذاكرتهم صور لـ"مجانين" مدينتهم حتى إذا لم يروهم أو كانوا يخافونهم فالسرد العام ظالم بحق كل مختلف عن الكل، حيث يرتبط وصف مجنون بالعنف أو التعدي أو الصريخ أو الكلام الخارج عن الأدب... إلخ. ففي الذاكرة الجمعية، على سبيل المثال، لمدينة المحرق العريقة أسماء لشخصيات حفرت في تفاصيل تاريخ تلك المدينة ومنهم كثيرون حملوا وصف الجنون بعضهم من النساء وكثيرون من الرجال، ولكن حتى في الجنون تبقى الفروق تميز بين الرجال حاملي الصفة والنساء اللاتي في الكثير من الأحيان يتم عزلهن في إحدى غرف المنزل وتحويلهن عبر المعاملة اللا آدمية إلى مسخ بشر فقط، حتى تحرم المرأة من الميراث أو حقها في الارتباط بمن تسلل إلى قلبها رغم كل الحواجز والقيود. هكذا عرف المجتمع معنى الجنون لصغاره حتى عندما كبروا فانفتحت شبابيك الكون بأدبه وثقافاته عليهم، عادوا ليراجعوا كثيراً مما رسخته الذاكرة الجماعية ومنها مفهوم الجنون وتعريفه.. هنا عادوا وعدنا لتعريف جديد للجنون بعيد عن ذاك الذي تربينا عليه، وربما في شكل من أشكال رد الاعتبار لمفهوم الجنون راح البعض يكرر "ما أحلى الجنون" وقال آخرون في الجنون صحة، وركض الحالمون ليصفوا الجنون بكل ما تيسر من معاني الحرية والانعتاق من النمط السائد أو العام. وفي رد الاعتبار للجنون كان من المهم ألا ننسى أن التراث العربي والشعري مليء بوصف العشاق بالجنون، فكل من غرق في الحب والوله والغرام والعشق هو مجنون معشوقته، فكان "مجنون ليلى" قيس بن الملوح و"مجنون بثينة" جميل بن عبدالله بن معمر، والذي لا يعرفه البعض إلا بجميل بثينة وآخرون وهم كثر!!وقد استرسل كثيرون في فهم الجنون وتفسير مفهومه لدى العرب ومنهم أبوالقاسم النيسابوري في كتابه الشهير "عقلاء المجانين" والذي بحث عن أصل الجنون في اللغة العربية، وتوصل إلى أن جن الشيء هو استتر، بمعنى أن المجنون هو المستور العقل، ولكن النيسابوري يخوض في تفاصيل أوسع حول مفهوم الجنون وتعريف المجانين في كتابه هذا. وفي حين كان للجنون مفهوم قريب من الرومانسية أحيانا في التراث العربي، تحول أو حوله البعض الى شيء من الوصف السلبي لكل من يختلف عن الجمع سواء كان هذا الجمع هو العشيرة، أو القبيلة أو العائلة أو الشعب بعامته، ألم يصف كثيرون عشاق الحرية والعدالة بالمجانين، هذا إن لم يتطور الوصف ويصبحوا "خونة" للوطن أو العشيرة أو الأمة، حتى أصبح أكثر عقلاء هذه الأمة هم مجانينها، فعليكم بالجنون لأن قليلاً منه ينعش القلب وكثيراً منه يبقي على البهجة المتسربة من شقوق جدران العقلاء. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.