لكل المدن مجانينها كما لها مقابرها وحاناتها ومقاهيها الشعبية وحاراتها وأزقتها وحتى بيوت قد تحمل تسميات خاصة، ولكنها بالمجمل تقدم خدمات متشابهة، وتبقى مختفية في سردهم الجمعي في محاولة التعفف والبعد عنها!! ولكن يبقى المجانين كما يسميهم عامة الناس هم الأكثر بروزا وحضورا ضمن السرد الشعبي أو المحكي للناس في تلك المدن.يبدو الحديث عن الجنون والمجانين أكثر حاجة اليوم من أي وقت آخر، والزمن توقف وتحول الجمع إلى الصمت أو العقل الجمعي الخائف والمتوجس كثيرا والرافض لأي تمرد على السائد والقابل بالذل بأشكاله والتسميات الحداثية له، وتزداد الحاجة لنبش المكنون وإعادة الاعتبار للجنون حتى لا تحولنا الجائحة الى قطيع يحمل صفة بشر وتجردنا من كل متع الحياة لشدة خوفنا من الموت.
المجانين في تاريخنا متنوعون وليسوا بشكل وتفاصيل واحدة، منهم الصامت الذي لا يملك سوى أن يراقب الآخرين بشيء من السخرية وأحيانا ربما الخوف، وآخرون كثيرو الكلام والسؤال والتدخل والاستفسار أو الطلبات، فهم ليسوا كما صورتهم السينما العربية أحيانا دراويش وحكماء في الوقت نفسه، يرددون العبارة ذاتها وهي في مجملها معبرة عن ظلم وقع عليهم والظلم هو ما يوحدهم على اختلاف مدنهم وتنوعات مظاهرهم ألا يكفي أن يوصفوا بالجنون فيما قد يبدو الوصف الأدق لكثيرين منهم هو أنهم مختلفون.كثيرون منا بقيت في ذاكرتهم صور لـ"مجانين" مدينتهم حتى إذا لم يروهم أو كانوا يخافونهم فالسرد العام ظالم بحق كل مختلف عن الكل، حيث يرتبط وصف مجنون بالعنف أو التعدي أو الصريخ أو الكلام الخارج عن الأدب... إلخ. ففي الذاكرة الجمعية، على سبيل المثال، لمدينة المحرق العريقة أسماء لشخصيات حفرت في تفاصيل تاريخ تلك المدينة ومنهم كثيرون حملوا وصف الجنون بعضهم من النساء وكثيرون من الرجال، ولكن حتى في الجنون تبقى الفروق تميز بين الرجال حاملي الصفة والنساء اللاتي في الكثير من الأحيان يتم عزلهن في إحدى غرف المنزل وتحويلهن عبر المعاملة اللا آدمية إلى مسخ بشر فقط، حتى تحرم المرأة من الميراث أو حقها في الارتباط بمن تسلل إلى قلبها رغم كل الحواجز والقيود. هكذا عرف المجتمع معنى الجنون لصغاره حتى عندما كبروا فانفتحت شبابيك الكون بأدبه وثقافاته عليهم، عادوا ليراجعوا كثيراً مما رسخته الذاكرة الجماعية ومنها مفهوم الجنون وتعريفه.. هنا عادوا وعدنا لتعريف جديد للجنون بعيد عن ذاك الذي تربينا عليه، وربما في شكل من أشكال رد الاعتبار لمفهوم الجنون راح البعض يكرر "ما أحلى الجنون" وقال آخرون في الجنون صحة، وركض الحالمون ليصفوا الجنون بكل ما تيسر من معاني الحرية والانعتاق من النمط السائد أو العام. وفي رد الاعتبار للجنون كان من المهم ألا ننسى أن التراث العربي والشعري مليء بوصف العشاق بالجنون، فكل من غرق في الحب والوله والغرام والعشق هو مجنون معشوقته، فكان "مجنون ليلى" قيس بن الملوح و"مجنون بثينة" جميل بن عبدالله بن معمر، والذي لا يعرفه البعض إلا بجميل بثينة وآخرون وهم كثر!!وقد استرسل كثيرون في فهم الجنون وتفسير مفهومه لدى العرب ومنهم أبوالقاسم النيسابوري في كتابه الشهير "عقلاء المجانين" والذي بحث عن أصل الجنون في اللغة العربية، وتوصل إلى أن جن الشيء هو استتر، بمعنى أن المجنون هو المستور العقل، ولكن النيسابوري يخوض في تفاصيل أوسع حول مفهوم الجنون وتعريف المجانين في كتابه هذا. وفي حين كان للجنون مفهوم قريب من الرومانسية أحيانا في التراث العربي، تحول أو حوله البعض الى شيء من الوصف السلبي لكل من يختلف عن الجمع سواء كان هذا الجمع هو العشيرة، أو القبيلة أو العائلة أو الشعب بعامته، ألم يصف كثيرون عشاق الحرية والعدالة بالمجانين، هذا إن لم يتطور الوصف ويصبحوا "خونة" للوطن أو العشيرة أو الأمة، حتى أصبح أكثر عقلاء هذه الأمة هم مجانينها، فعليكم بالجنون لأن قليلاً منه ينعش القلب وكثيراً منه يبقي على البهجة المتسربة من شقوق جدران العقلاء. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.
مقالات
بعض من الجنون *
28-06-2021