لم تحتل الثقافة فيما يبدو المساحة نفسها للدين والسياسة والتنظيم بمعانيها المعروفة في حسابات المرشد "حسن البنا"، وربما كان مع الوقت قد استقر فعلا على أن مشكلة المسلمين الكبرى يومذاك وفيما بعد، ابتعادهم عن الدين فهما وسلوكا ومقاصد، بعد أن نجحت مخططات العدو الغربي والاستعمار والتبشير واليهود، في تحقيق هذا الابتعاد! وقد تم ذلك بالتعاون مع قيادات ونخب محلية داخل أوطانهم متظاهرة بالتدين في حين هي متعاونة أو متساهلة مع مخططي ومنفذي "الغارة على العالم الإسلامي".وامتد ذلك العداء للغرب ولغير المسلمين كالمسيحيين في مصر ولبنان والشام الى اليوم، حيث ترى ذلك في أدبيات وشعارات حتى الجماعات و"التنظيمات الجهادية" التي تأسست لاحقا، مستعينة بكتب ومناهج الإخوان الحزبية في كل مكان.
شكلت ثقافة المرشد البنا ومؤلفاته القليلة وصحف الإخوان فيما بعد فكرة الإخوان، ولم يكن "البنا" كما هو معروف من أعلام الثقافة أو التجديد الديني، أو ممن يدخل في حوارات موسعة معهم بل لم يكن حتى من خريجي الشريعة في الأزهر أو أحد المتابعين لبرامج ومناهج الدراسات العليا بجامعة القاهرة ولا كان كالأديب عباس محمود العقاد مولعا بالقراءة والكتب والمفكرين.ولهذا كله، ربما لم تحتل الثقافة الواسعة لدى لقيادات الإخوان أو كوادرهم آنذاك واليوم ما تستحق من اهتمام حركة بضخامة حركة الإخوان المسلمين، وتيارات دينية بتنوع المذاهب والأفكار والمؤلفات والجماعات في الإسلام.لم تقف جماعة الإخوان في كل الدول العربية والإسلامية عند فقرها الثقافي ومحدودية فهمها الحضاري للتجديد الديني، كالتجديد الديني في الثقافات والأديان الأخرى، بل لعبت الجماعة دائما، وقد تحولت الى قوة سياسية شعبية، والى مدافع صلب عن الثقافة الدينية الموروثة والجمود الاجتماعي، حتى عندما يقوم الدليل على ضرورة التجديد والتغيير، فاضطر بعض المجددين داخل الجماعة والمقتنعين بضرورة التطوير الى خوض معارك وصراعات مع الأجنحة المحافظة.ورغم اتساع حركة الإخوان عالميا، ونموها في دول ومجتمعات لم تتعرض فيها "الجماعة" لأي اضطهاد أو قمع كأوروبا وأميركا أو تمتع فيها الإخوان بالمال وراحة البال والأبواب المشرعة كالدول الخليجية، فإن حركة الإخوان المسلمين لم تكن في أي مكان حركة نهضوية تجديدية للثقافة وللمجتمع.كما أن حركة الإخوان الى يومنا هذا، ليست تيارا إنسانيا تنويريا، يلد المفكرين والمبدعين والمجددين والشعراء والروائيين وكبار المثقفين والكتاب والفنانين وغيرهم، إذ لا تزال أساسا حركة تعبئة وشحن بالعواطف الدينية والتهويلات والشعارات والصراعات السياسية والتفسيرات غير الدقيقة للتاريخ وتطور الأحداث، والتشهير بغير المسلمين، وحتى بالكثير من المسلمين! يشيد البنا بذاكرته الخارقة وقدرته على الحفظ حتى وهو غارق في النوم! أحد كبار الإخوان صاحب كتاب مهم هو "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"، في ثلاثة أجزاء، القاهرة 1979، ينقل عن "حسن البنا" قوله عن تجربة عجيبة للمرشد ، يقول فيها البنا: "نمت ليلة الامتحان فإذا بي أرى فيما يرى النائم رجلا يواسيني ويقول لي: التفت إلي فالتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التي سأمتحن فيها في الصباح، فيفتح الكتاب عند صفحة معينة، ويشير إلي أن أقرأ حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخرى فأقرأها وهكذا حتى أنهى الكتاب فأغلقه وتركني، فلما أصبحت وجدتني حافظا كل ما قرأت- وكانت هذه طبيعتي أن أحفظ ما أقرأه- ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلها هي نفس ما قرأته في الرؤيا، وهكذا مرت ليالي الامتحان وأيامه على هذا النحو وظهرت النتيجة فكنت الأول والحمد لله". (الإخوان ج1، ص58).وكانت ذاكرة "البنا" في حفظ الشعر لا تقل مضاء، حيث ينقل عنه "محمود عبدالحليم" في الكتاب نفسه ما يلي: "التحقت بدار العلوم وكنت أهوى الأدب العربي ما كان منه مقرراً دراسته وما لم يكن مقرراً، وكنت أكتب ما يعجبني من قصائد في كراريس أعددتها لذلك حتى تكامل عندي من ذلك عدة كراريس، وكان امتحان الأدب العربي هو الامتحان الرئيسي في الدار، وكان الامتحان فيه تحريريا وشفويا، فلما مثلت بين يدي لجنة الامتحان الشفوي في امتحان الدبلوم النهائي لدار العلوم سألني رئيس اللجنة عما أحفظ من الشعر فقدمت إليه الكراريس فقال لي: ما هذه الكراريس؟ قلت: إن ما فيها هو ما أحفظه فتعجب الرجل وقال: هل أنت على استعداد أن أسمع منك أية قصيدة أختارها من هذه الكراريس؟ فأجبته بالإيجاب. فطفق يطلب إلي أن أقرأ حتى اطمأن إلى أنني أحفظ ما فيها جميعا" (ص58).ماذا عن أفضل كتب الفكر والتراث الإسلامي في نظر المرشد البنا؟ يقول عبدالحليم إن المرشد كان يرى أن كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد الغزالي (1059-1111) هو "أعظم موسوعة إسلامية"، وكانت إحدى أمانيه أن تتيح له الظروف شرح هذا الكتاب، ويضيف: "وقد شرع فعلا في ذلك فأعد درسا أسبوعيا في منزله لمجموعة من الإخوان في شرح هذا الكتاب، وكان حريصا على كتابة كل درس يلقيه في كراسة- مما لم يفعله في أي درس آخر- ولكن الظروف لم تسعف" (ص61).ولأبي حامد العزالي دوره المعروف في عصره بالحرب الشعواء التي شنها على الفيلسوف الأندلسي الكبير "ابن رشد"، وعلى الفكر الفلسفي إجمالا، والذي لا تزال حركة الإخوان المسلمين والإسلاميون عموما، من ألد أعداء مطالعة كتبه وتدريس الفلسفة نفسها حتى في الجامعات، ومن المواقف التي لا يكاد يصدقها شباب الإخوان المسلمين اليوم، مع هذا الانتشار الواسع للإسلام في كل زوايا الأرض، أن مرشدهم "الشيخ حسن البنا"، كان من أشد معارضي ترجمة القرآن إلى أية لغة أخرى!وقد نشأ اقتراح ترجمة القرآن في أروقة الجامع الأزهر، وهاجمها أحد شيوخ الأزهر في مقالات نشرت بجريدة "الإهرام"، أما الإخوان فاعتبروا ترجمة القرآن... كارثة دينية!وبدا موقف الإخوان من ترجمة القرآن الكريم غريبا للكثير من الإسلاميين أنفسهم.. فقد كان قد ترجم في أوروبا منذ منتصف القرن 15م! يقول الكاتب المصري "أنور الجندي": "كانت فكرة ترجمة معاني القرآن" التي حمل لواءها محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر منذ عام 1928 من أعمال مقاومة الغزو الثقافي والتغريب، ذلك أن الغربيين كانوا قد ترجموا القرآن منذ منتصف القرن الخامس عشر (1457) عن طريق المبشرين وتوالت الترجمات التي بلغت 34 ترجمة" (الفكر العربي المعاصر في معركة التغريب، القاهرة، 1961، ص472). يتبع غداً،،،
مقالات
الإخوان المسلمون... والثقافة (1-3)
29-06-2021