ركّزت معظم ردود الأفعال الإعلامية على المظاهر الشكلية في لقاء الرئيسَين جو بايدن وفلاديمير بوتين في جنيف، فكثرت تحليلات طريقة المصافحة، ولغة الجسد، والابتسامات، وتجهم الوجوه، لتحديد الطرف الواثق من نفسه والطرف المنزعج أو الفريق الذي سيحسم معركة الأفكار، وبناءً على هذه المؤشرات، سارع المحللون والنقاد في وسائل الإعلام إلى تحديد "الخاسر" أو "الرابح" في جنيف: هل أثبت بايدن قوته وتصميمه وصرامته في وجه بوتين المضطرب والمتردد؟ أم هل استفاد بوتين من اعتباره نظيراً مساوياً لبايدن؟عملياً، يثبت هذا اللقاء أن بايدن اقترح "بداية جديدة" بدل "إعادة ضبط العلاقات"، فقد طرح الرئيس الأميركي لائحة بالتحركات الروسية التي ترفضها الولايات المتحدة وكانت قد ردّت عليها عبر فرض العقوبات، لكن هذه المقاربة تشير أيضاً إلى استعداد واشنطن لإطلاق بداية جديدة في مجموعة كاملة من المسائل، بدءاً من أوكرانيا وصولاً إلى سورية، وترسيخ سلسلة جديدة من المعايير والخطوط الحمراء، مثل الربط الصريح بين نجاة ألكسي نافالني والعقوبات الأميركية المستقبلية. بعبارة أخرى، يمكن تبديد الخلافات عبر وضع إطار عمل لتجديد الحوار واستعمال قنوات واضحة. بما أن روسيا تؤثر في عدد كبير من المسائل العالمية التي تهمّ هذه الإدارة الأميركية، يثبت لقاء جنيف أن أوكرانيا لم تعد مهمة بالقدر نفسه في العلاقات الأميركية الروسية، ففي النهاية، كان بايدن نائب الرئيس الأميركي حين أطلق باراك أوباما حملة "إعادة ضبط" العلاقات التي ارتكزت جزئياً على إبعاد الخلافات المرتبطة بأوكرانيا عن العلاقات الثنائية الأساسية. لقد أعاد بايدن وقادة آخرون في الناتو التأكيد على مسار أوكرانيا للانضمام إلى الحلف في نهاية المطاف، لكن لا يُعتبر هذا البند جزءاً من الأولويات اليوم، وتعليقاً على هذا الموضوع، كان الرئيس الأميركي واضحاً في موقفه، فقال: "يتوقف الوضع على استعداد البلد لتلبية المعايير المطلوبة، ويجب أن يعالج مشكلة الفساد ويلتزم بمعايير أخرى، وسنرى ما يحصل في المرحلة المقبلة". رحّب أبرز شركاء واشنطن الأوروبيين بنجاح لقاء جنيف واتخاذه الخطوات اللازمة لبناء علاقات أكثر استقراراً وأقل تقلّباً بين الولايات المتحدة وروسيا، وكانت ألمانيا الأكثر سعادة بهذا التوجه لأنها تحاول منذ فترة تطبيق سياسة مزدوجة ترتكز على التواصل مع موسكو والضغط عليها في آن، فقد حاول بايدن خلال زيارته إلى أوروبا، بما في ذلك مشاركته في قمة مجموعة الدول الصناعية السبع وحلف الناتو، أن يضاعف جهوده لتقوية الإجماع العابر للأطلسي في ظل تقارب المواقف بين واشنطن والأوروبيين، لا سيما ألمانيا. في المقابل، يبدو أن واشنطن بدأت تقترب من موقف برلين في محاولةٍ منها لإعادة إحياء الإجماع العابر للأطلسي تجاه روسيا (علماً أنها تأمل أن تُضعِف ألمانيا التزاماتها مع روسيا وتزيد الضغوط عليها، لا سيما في مسائل حقوق الإنسان، في حال أصبح حزب "الخضر" قوة سياسية أكثر تأثيراً بعد انتخابات شهر سبتمبر).
أخيراً، نصل إلى الملف الصيني، فقد كانت بكين ستُسَرّ بفشل اللقاء الثنائي حيث يحاول بايدن إلقاء محاضرة على مسامع بوتين ويعطيه مجموعة من الإنذارات، في حين ينسحب بوتين من الاجتماع غاضباً، لكن اللقاء الأخير ينذر بتكثيف الحوار في المرحلة المقبلة، حتى أن الولايات المتحدة قد تعطي الأولوية للتعاون بدل المواجهة في مجالات مثل التغير المناخي ومناطق مثل القطب الشمالي، فتقرر عدم فرض عقوبات اقتصادية مثلاً. يدرك المحللون الصينيون جيداً أن أي تحوّل في الأولويات الاستراتيجية الأميركية وميل واشنطن إلى زيادة التركيز على حوض المحيطَين الهندي والهادئ يتطلبان علاقات أميركية روسية مستقرة (حتى لو لم تكن ودية)، وثمة حاجة أيضاً إلى تجنب توسيع الشرخ بين الولايات المتحدة وأهم شركائها الأوروبيين. يشكّل لقاء جنيف إذاً خريطة طريق لتحقيق هذين الهدفين في آن.كان السفير السابق مايكل ماكفول محقاً حين قال إن "العمل الشاق يبدأ بعد القمة". لقد وُضِعت ركيزة المرحلة المقبلة ويجب أن نتأكد الآن من جدّية التزامات الطرفين.* نيكولاس غفوسديف
مقالات
القمة الأميركية - الروسية تطرح فكرة استئناف الحوار
29-06-2021