الانسحاب من أفغانستان يزيد خسائر أميركا أمام الصين
أعلن الرئيس جو بايدن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان قبل شهرين، فتكلم عن ضرورة التركيز على الملف الذي يحتل الأولوية في السياسة الخارجية الأميركية: الصين، واعتبر الرئيس الأميركي أن إنهاء الحرب سيسمح للولايات المتحدة بإعادة توجيه طاقتها نحو تحديات جديدة وأكثر إلحاحاً، على رأسها المنافسة "المحتدمة" مع بكين التي تزداد نفوذاً، وفي حين تحاول قوة استبدادية عظمى وناشئة التفوق على الولايات المتحدة في المجالات التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية، يظن مؤيدو هذا المنطق أن التورط في حرب لا متناهية غير ممكن.لكن مع ظهور تفاصيل إضافية حول استراتيجية إدارة بايدن بعد الانسحاب من أفغانستان، تبدو المنافع المتوقعة على مستوى القدرة التنافسية الأميركية ضد بكين غامضة، وفي نهاية المطاف، قد يؤدي رحيل الولايات المتحدة من كابول إلى إضعاف القوة الأميركية الاستراتيجية ضد الصين بدل تعزيزها.عملياً، يطرح مؤيدو الانسحاب ثلاثة تبريرات لتوقّع زيادة قوة واشنطن في منافستها المحتدمة مع بكين بعد الرحيل من أفغانستان، وقد تُحرر واشنطن بهذه الطريقة الموارد العسكرية العالقة اليوم في أفغانستان، مما يسمح بإعادة نشرها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وقد تتراجع العوائق الدبلوماسية والبيروقراطية التي يواجهها كبار المسؤولين الأميركيين، مما يسمح لهم بتخصيص الوقت والانتباه للملف الصيني بعدما انشغلوا بالمستنقع الأفغاني لوقتٍ طويل. أخيراً، قد توفّر هذه الخطوة أموال الحكومة الأميركية وتستعمل مليارات الدولارات لتمويل مبادرات تُحسّن مكانة الولايات المتحدة في منافستها مع الصين.
قد تبدو كل واحدة من هذه الحجج مقنعة ظاهرياً، لكنها غير متماسكة، ففي ما يخص الوضع العسكري، سبق أن تراجع الوجود الأميركي في أفغانستان وبات يقتصر على أقل من كتيبة من الجنود حين وصل بايدن إلى الرئاسة، فكان يمكن منع سقوط الحكومة الأفغانية بيد حركة "طالبان" عبر إبقاء بضعة آلاف الجنود الأميركيين بكل بساطة، لكنّ إعادة انتشارهم لن تُغيّر ميزان القوى العالمي، ويُفترض أن يكون تعزيز التفوق العسكري الأميركي المتناقص في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على رأس أولويات البنتاغون، لكنّ القدرات التي يتم سحبها من أفغانستان تبقى ضئيلة لدرجة ألا تُحدِث فرقاً حقيقياً.لكن إذا قررت الولايات المتحدة وقف جميع أنواع القتال في أفغانستان، فقد يظن البعض أن نقل تلك القوات العسكرية والقدرات الأميركية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ مؤشر على تعزيز الالتزامات الأميركية هناك، لكن الخطة الراهنة لا تهدف فعلياً إلى وقف العمليات في أفغانستان بل إطلاقها من خارج البلد بكل بساطة.لا تستطيع إدارة بايدن أن تنهي جهود مكافحة الإرهاب الأميركية في أفغانستان لأن التهديدات الإرهابية هناك لا تزال قائمة، حيث يحذر تقرير صادر عن وزارة الخزانة الأميركية هذه السنة من توسّع قوة تنظيم "القاعدة" في أفغانستان تزامناً مع متابعة تعاونها مع "طالبان" والاستفادة من حمايتها، ورغم تكاثر معاقل الإرهابيين منذ هجوم 11 سبتمبر، يتمركز جزء كبير من قادة "القاعدة" حتى الآن في محيط الحدود الأفغانية الباكستانية وفق تقرير أصدرته الأمم المتحدة هذا الشهر، ويشدد هذا التقرير أيضاً على أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى شبكة المتطرفين.للتعامل مع هذا التحدي، تعهدت إدارة بايدن بتطبيق استراتيجية "فوق الأفق" لمكافحة الإرهاب، وتتطلب هذه المقاربة، في البداية على الأقل، إطلاق عمليات من دول خليجية مثل قطر والإمارات العربية المتحدة، على بُعد بضع ساعات بالطائرة من أفغانستان، وبما أن مكافحة الإرهاب تتطلب وجوداً جوياً دائماً لتحديد الأهداف وتعقبها، يجب أن يُخصص البنتاغون طائرات إضافية للمهمة الأفغانية، ومن المتوقع أيضاً أن يتعرض للضغوط كي يبقي حاملة طائرات شبه دائمة في المياه المقابلة لباكستان لتعزيز القوة العسكرية هناك.لهذا السبب، تجازف المقاربة الأميركية الجديدة في أفغانستان بإعادة توزيع أعباء مكافحة الإرهاب، فتخسر القوات الميدانية أهميتها عند وقوع أي حوادث طارئة مع الصين وتزداد أهمية المنصات الجوية والبحرية طويلة المدى.يزداد الوضع سوءاً لأن عدداً صغيراً من حلفاء واشنطن يستطيع المشاركة في هذه الاستراتيجية، وحتى الفترة الأخيرة، كانت القوات الأميركية تشكّل جزءاً بسيطاً من الوجود الأجنبي المؤلف من تحالف دولي واسع داخل أفغانستان، لكن الاتكال على عمليات الاستطلاع والضربات المتطورة سيزيد اليوم، فهي القدرات التي تملكها الولايات المتحدة لكن يفتقر إليها معظم حلفائها، ولهذا السبب من المتوقع أن يُحوّل الانسحاب عملية أفغانستان من مهمة متعددة الأطراف (حيث يفوق عدد قوات الناتو الميدانية الأميركيين بنسبة الضعف في نهاية المطاف) إلى عملية تتحمّل واشنطن معظم أعبائها. فيما يخص الفكرة القائلة إن الانسحاب من أفغانستان سيحرر القادة الأميركيين من الأعباء الدبلوماسية والبيروقراطية، تشير الأدلة المتاحة، حتى الآن على الأقل، إلى احتمال أن يعطي الانسحاب نتيجة معاكسة.أطلق قرار الانسحاب سلسلة من الأزمات المتوقعة التي بدأت تستنزف أعلى مراتب الحكومة الأميركية منذ فترة، منها اندفاع جنوني نحو تفكيك تأشيرات الهجرة الخاصة بالحلفاء الأفغان (أصبح مصيرهم مجهولاً اليوم)، واقتراح غير ناجح حتى الآن لفرض تدابير جديدة حول نشر القواعد مع دول آسيا الوسطى التي يصعب التفاوض معها، ونزعة إلى إقناع الحكومة التركية بالحفاظ على قواتها العسكرية في كابول لإبقاء المطار الدولي مفتوحاً ومتابعة تشغيل السفارات الأجنبية، وتخبّط البنتاغون لابتكار طريقة فاعلة لمتابعة تدريب الأفغان، لا سيما القوات الجوية الأفغانية، بعد رحيل الجنود أو حتى المقاولين الأميركيين من البلد.أخيراً، لا شك أن إنهاء الوجود الأميركي الميداني في أفغانستان سيزيد مدخرات البلد، لكن تبيّن أن حجم تلك المدخرات سيكون أقل من المتوقع، وفي النهاية، ستبقى القوات الأميركية بحاجة إلى مكان إقامة وطعام ورواتب بغض النظر عن وجودها في أفغانستان أو قطر أو تكساس، فقد تعهدت إدارة بايدن أيضاً بمتابعة تمويل الجيش الأفغاني، بمعدل مليارات الدولارات سنوياً، واقترحت زيادة الميزانية المخصصة لدعم الحكومة في كابول، أما تكاليف العمليات وصيانة الطائرات التي تقطع مسافات طويلة للتوجه إلى أفغانستان، فستكون باهظة حتماً، حتى أن أي تدابير جديدة مرتبطة بنشر القواعد في أي مكان ستكون مكلفة بالقدر نفسه، وعند أخذ هذه العوامل كلها بالاعتبار، تبدو المدخرات المتوقعة بعد الانسحاب من أفغانستان وهمية وغير واقعية.لكن يمكن تجاوز هذه المشاكل كلها نظرياً، فقد لا تنهار الدولة الأفغانية غداة انسحاب القوات الأميركية، بل يُعقَد اتفاق سلام بين الحكومة في كابول وحركة "طالبان"، أو ربما لن ينشأ ملاذ كبير للإرهابيين في أفغانستان حتى لو استولت "طالبان" على البلد، وإذا حصل ذلك، فقد تتدخل أطراف أخرى للتعامل مع هذه المشكلة، مما يؤدي إلى إعفاء الولايات المتحدة من المسؤولية، إذا تحقق أيٌّ من هذه السيناريوهات، فستتمكن إدارة بايدن من تغيير وجهة طاقتها ومواردها وأموالها واستعمالها لخوض اللعبة الكبرى مع الصين.لكن تثبت الأحداث التاريخية دوماً أن توقّع أفضل النتائج في الشرق الأوسط الكبير نادراً ما يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، حتى أن الاضطرابات المتواصلة هناك قد تُخرّب أفضل خطط واشنطن، حيث وصلت إدارة بوش إلى السلطة وهي تتوقع تخصيص سياستها الخارجية للتعامل مع تنامي نفوذ الصين، لكن سرعان ما انحرف مسارها الأصلي بسبب هجوم 11 سبتمبر، وبعد مرور 12 سنة، بدأت إدارة أوباما ولايتها الرئاسية الثانية وهي مُصمّمة على التعامل مع ملف آسيا في المقام الأول، لكن سرعان ما انهارت هذه الطموحات بعد ظهور تنظيم "داعش"، ونتيجةً لذلك، لن تكون استراتيجية مكافحة الإرهاب الفاعلة في أماكن مثل أفغانستان نقيضاً للسياسة القوية تجاه الصين بل شرطاً مسبقاً لها.منعاً لتكرار هذه الأحداث التاريخية، أصبحت إدارة بايدن مضطرة اليوم لابتكار حلول عسكرية ودبلوماسية بسبب سياسة الانسحاب التي تبنّتها، ولن يصبح أمن البلد وحده على المحك بسبب مخاطر الإرهاب ولا أبسط حقوق ملايين الأفغان المُهدَّدين من حركة "طالبان"، بل يطرح هذا الوضع تهديداً على براعة الولايات المتحدة في الحفاظ على تماسكها الاستراتيجي أيضاً. يصعب أن نتوقع ما ستفعله واشنطن لتبرير الفكرة القائلة إن مجابهة شركة "هواوي" و"مبادرة الحزام والطريق" هي على رأس أولويات الأمن القومي في عالمٍ يتجدد فيه نفوذ الجهاديين العابرين للحدود ويهرب فيه ملايين اللاجئين عبر الحدود الدولية، ورغم تراجع التهديدات التي تطرحها "القاعدة" و"داعش" اليوم أكثر من أي وقت مضى، تكشف استطلاعات الرأي أن الأميركيين، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي، يعتبرون مكافحة الإرهاب مساوية بأهميتها للمنافسة مع بكين، حتى أنها تتفوق عليها في مجال السياسة الخارجية برأي البعض، وإذا غرقت أفغانستان في الفوضى مجدداً، فقد يصبح طموح واشنطن بالتفوق في المنافسة القائمة مع الصين جزءاً آخر من خسائرها المأساوية وغير المبررة.* ريتشارد فونتين وفانش سيرشوك