الحديث همساً
معظم الأفكار النافعة تبدأ همساً في خواطر المصلحين، أو في مجالس محفوفة بين النخب أو المثقفين أو حتى العامة، كل يود أن يجهر بما يهمس به، يود أن يعلنه على الملأ، وربما يود أن يسديه لحاكم أو سلطان أو سلطة، لكن بيئة الخوف والتردد المشوبة بالوهم تلجم تلك الأفكار، وفي طليعتها وهم إغضاب الحاكم أو إزعاجه أو مضايقته، في حين أن الحقيقة هي أن ذلك الهمس وتلك الأفكار فيها خير ونفع للبلاد والعباد. وقد يظهر بعض تلك الهمسات أو الأفكار للحاكم فيستحسنها، بل وربما يرى أنها تأخرت كثيراً، ويتمنى لو أنها وصلته منذ زمن مضى، لتبدل الحال عما صار إليه أمر البلاد أو العباد.فليس في الهمس أو الأفكار ما هو مستنكر أو ضار، إذا ما تم الاستماع إليه بقلوب سامية ورغبة واعية، فأهم الإنجازات وأعظم التطورات وأفضل النجاحات وأبدع الاختراعات تبدأ أفكاراً وهمساً، ولا تكتسب قيمتها إلا بعد ظهورها علناً وانعكاسها واقعاً.فلئن اتفقنا على أن الهمس والأفكار مرحلة ملحة ومشروعة لإحداث نقلة بما ينفع البلاد والعباد، فأجد لزاماً الحديث عما يهمس به الكويتيون وأفكارهم للخروج من دوامة بلدهم وتقهقر دولتهم.
وربما، من الأهمية الإشارة لأفكار كانت تتداول همساً لسنوات طويلة، وقد خرجت من الهمس وصارت من الأمور التي سار نحوها البلد، وأقصد تحديداً "فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء"، فقد كانت من المحظورات، بل وربما من الأفكار "الانقلابية" في نظر المحرضين، لكنها بعد أن تم تداولها همساً لما يزيد على ثلاثين عاماً، تم تبنيها وتطبيقها منذ عام 2003، فكانت إيجابية ورائدة، ولمس الجميع إيجابياتها ومنافعها، ولم يعد قائلها لا محرضاً ولا انقلابياً، بل إصلاحي وواقعي، وتبددت أوصاف الشيطنة لمن كان يرددها، رغم أن كثيراً من النخب والمفكرين قد رحل إلى جوار ربه، ونظرة النظام والمحرضين له أن أفكاره كانت "ثورية"، وهي ليست كذلك، ومنهم د. عثمان عبدالملك، رحمه الله، وغيره، لكن البطانة الفاسدة والمحرضة حرفت الأمر لمسار واهم، وهو الإضرار بالبلد، حماية لمصالحهم وفسادهم. ونعود لهمس الكويتيين اليوم وأفكارهم، لنظهر البعض منها وحيويته لإخراج البلد من دوامته.فهناك مجاميع كبيرة من الكويتيين والنخب والسياسيين، يتداولون، همساً، بعض الأفكار التي من شأنها إحداث نقلة في النظام السياسي والدستوري، بل وتعزز مكانة أسرة الحكم ومرجعيتها وتنأى بها عن مواضع التجريح السياسي، وهو بترك رئاسة الوزراء للشعب، فما أحوج الكويت إلى الاستماع لذلك الهمس وتقبله، فهو حجر الزاوية للاستقرار السياسي، ويقضي على الخلط في المسؤوليات والمداخل الخاطئة التي يستغلها المحرضون لتصوير الأمر للأسرة الحاكمة أن هناك تقصداً لمساءلة أبنائها، وأنها لا بد تكون طرفاً في التجاذب السياسي، وذلك وهم ناجم عن وضع خاطئ، فالهامسون يطالبونها بالبعد عنه، وترك رئاسة الوزراء للتداول الشعبي، وهو التوجه الأكثر توافقاً مع نظامنا الدستوري، الذي أثبت نجاحاً هاماً في كل من الأردن والمغرب، وكلاهما نظام مشابه لنظامنا الدستوري.فرئيس الوزراء هو موضع المسؤولية السياسية (م. 55)، وهو المهيمن على سياسات الدولة التنفيذية (م. 128)، ومسؤول عن تنسيق العمل بين الوزارات (م. 130)، وهو معرض لعدم التعاون معه من مجلس الأمة (المواد 100، 101، 102). وحينما يتولاه أحد أبناء الأسرة الحاكمة، خلافاً للحكمة الدستورية وتوجيهات المذكرة التفسيرية، تصبح مساءلة رئيس الوزراء، وكأنما هي موجهة للأسرة، رغم أنها ليست كذلك، فيضيق صدر النظام، وينشط المحرضون لقلب الأمور وتصوير الأمر وكأنه انقلاب، وهو ليس كذلك، ويُصبح ابن الأسرة ممن تقلد هذا المنصب غير بعيد عن التجريح السياسي، بل وحتى للصراع الداخلي بين أبناء الأسرة أنفسهم، فيجد المحرضون ضالتهم للتحريض ضد مجلس الأمة وضد محاسبة النواب لرئيس الوزراء، والأسرة الحاكمة في غنى عن ذلك، بما فيه من إجهاد وكلفة مالية وسياسية، عليها النأى بنفسها عنها، منعاً لخلط الأوراق، وحالة اللااستقرار، في حين لو استمعت لهمس التخلي عن رئاسة الوزراء، لانتهى وهم الصراع وعدم الاستقرار.لنستمع لهذا الهمس النافع، ولنوصد الباب بوجه المحرضين والفاسدين الذين يقلبون الأمور ويشوهونها، فليس كل الهمس مضراً أو انتقاصاً.