هل يستطيع بايدن تحقيق كل شيء؟
تستطيع واشنطن أن تحافظ على نظام عالمي محدد وتتجنب المبالغة في توسيعه من خلال استعمال تفوقها الطبيعي بطريقة حكيمة، وإبقاء الانتشار العسكري الواسع في إطار الردع شبه المتساوي بين جميع الأطراف، والتعاون مع الشركاء عند نشر القوات العسكرية، والتركيز على الجهات الحليفة التي تملك الموارد.
يُحدد جيريمي شابيرو، في مقالته "بايدن وعقيدة كل شيء" (بتاريخ 22 أبريل)، النقاط غير المتماسكة في السياسة الخارجية التي تطبقها الإدارة الأميركية الجديدة. تتعهد واشنطن اليوم بتبني سياسة خارجية تفيد الطبقة الوسطى والتواصل مع الآخرين لمعالجة جميع المشاكل العالمية، وتبدو معظم الحلول التي اقترحها شابيرو منطقية، منها تقليص التدخلات المتسرعة، والاختيار بين القيم والحلفاء، والانسحاب من أفغانستان، لكن لا تتطرق مقالته إلى مبدأ قديم ومسؤول عن التناقض الذي يتكلم عنه في مجال السياسة الخارجية.منذ الأربعينيات، لم تكتفِ القيادة الأميركية في الخارج بحماية المصالح الأميركية الضيقة، بل دعمت أيضاً نظاماً أمنياً جماعياً وأساسياً يهدف إلى كبح أي تهديدات دولية خطيرة، سواء كانت تتعلق بأعمال العنف في غزة أو الاضطرابات في شبه الجزيرة الكورية، فمن خلال طرح مجموعة محورية من المعايير العالمية، وتعزيز النمو الاقتصادي، ومنع صراعات كبرى كتلك التي طبعت القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قدّم هذا النظام المبني على القواعد منافع هائلة للشعب الأميركي والعالم.الأمن الجماعي ليس نظرية مبهمة في مجال العلاقات الدولية، بل إنه الهدف الذي حاولت الدبلوماسية الأميركية والسياسة الدفاعية الحفاظ عليه طوال أجيال، حيث يستطيع صانعو السياسة والمحللون التشكيك بصوابية تلك الأسس حتى الآن، أو بقدرة الولايات المتحدة على التمسك بالنظام الذي أنشأته، أو احتمال نجاح خيارات بديلة مثل الانعزالية، أو براعة واشنطن في إدارة النظام القائم، لكنهم لا يستطيعون التكلم عن السياسة الخارجية الأميركية بطريقة متماسكة من دون ذكر الأمن الجماعي.
لا يتطرق شابيرو إلى هذا العنصر من الاستراتيجية الأميركية، بل يدافع عن سياسات معينة من دون وضعها في سياقها العام، ولا تستبعد اقتراحاته الحفاظ على نظام الأمن العالمي، فهو يوافق على مشاركة الولايات المتحدة في منظمات متعددة الأطراف ومعاهدات دولية، لكنه لا يعترف بأن تلك المؤسسات هي جزء من نظام أوسع يساعدها في تجنب مصير عصبة الأمم التي تفككت بعد فشلها في منع ضمّ عدد من الدول الأعضاء، وفي المقابل، يبدو النظام الأمني المدعوم من الولايات المتحدة أكثر تجاوباً بكثير: لا تزال واشنطن مرتبطة بمعظم التهديدات الخطيرة التي يواجهها النظام العالمي، مما يعني أنها مسؤولة عن ردع موسكو في دول البلطيق، والحفاظ على وجود أميركي في بحر الصين الجنوبي، وقيادة تحالف من 80 عضواً ضد تنظيم "داعش".ربما انتهت الحرب الباردة وأساءت الولايات المتحدة إلى نفسها عبر إشعال الجبهات في كل مكان، بدءاً من أفغانستان وصولاً إلى الصين وروسيا، لكن لا تتعلق المشكلة الحقيقية بإدارة نظام الأمن الجماعي العالمي بحد ذاته، بل بمعالجة الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن خلال هذه المرحلة كلها. بعد الحرب الباردة مثلاً، افترض صانعو السياسة الأميركية والمحيطون بهم أن الولايات المتحدة باتت مضطرة للتواصل مع الآخرين لمعالجة أي مشكلة ناشئة، فهذا المعيار أساسي من الناحية الأخلاقية، بل كان يجب أن يفرض النظام العالمي نفسه في كل مكان أو ينسحب من كل مكان، وكان نجاح مقاربة التواصل حتمياً لأن النموذج الأميركي لا يُقاوَم، لكن تبيّن أن قدرة واشنطن على التأثير بالتغيرات الجذرية في الخارج، عبر نشر الجنود وتقديم المساعدات المالية وإقناع الآخرين بالمعايير الأخلاقية، تبقى محدودة، فقد فشلت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً حين حاولت تغيير رؤية الصين وروسيا عن العالم أو إعادة تأسيس العراق.لكنّ التعامل مع تاريخ التواصل هذا ليس جهداً جذرياً ولا رجعة عنه، فقد تشمل العودة إلى أي شكل من القيادة الحذرة تواصلاً دولياً، حيث يدرك فريق بايدن على ما يبدو ضرورة إقامة هذا النوع من التوازن، وفي هذا السياق، يتكلم شابيرو في مقالته عن احتمال فرض القوة الأميركية النسبية، لكن واشنطن وحلفاءها في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية (ولا ننسى شركاءها في دول مثل الهند وتركيا) يشكلون 30% من سكان العالم ونحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كذلك تتحمل تلك الدول نفسها معظم النفقات على الدفاع العالمي وتسيطر على الهندسة النقدية والتجارية الدولية التي تحلم بها بكين وموسكو.تستطيع واشنطن أن تحافظ على نظام عالمي محدد وتتجنب المبالغة في توسيعه من خلال استعمال تفوقها الطبيعي بطريقة حكيمة، وإبقاء الانتشار العسكري الواسع في إطار الردع شبه المتساوي بين جميع الأطراف، والتعاون مع الشركاء عند نشر القوات العسكرية، والتركيز على الجهات الحليفة التي تملك الموارد (المملكة العربية السعودية ومصر مثلاً، لا ميانمار أو جنوب السودان). تسمح هذه المقاربة للولايات المتحدة بالحفاظ على أمن وازدهار شعبها والعالم، على عكس الاستراتيجية التي تضع جميع قرارات السياسة الخارجية في إطار الخطابات المرتبطة بخلق فرص العمل.هذا ما ورد في تعليق جيمس جيفري على مقالة شابيرو، فجيفري هو رئيس برنامج الشرق الأوسط في "مركز ويلسون"، وكان مسؤولاً في الخدمة الخارجية في سبع إدارات أميركية وتسلم أخيراً منصب الممثل الخاص للتواصل مع سورية والمبعوث الخاص إلى التحالف العالمي لهزم تنظيم "داعش".في ما يلي رد شابيرو على تحليل جيمس جيفري: يعكس تحليل جيفري لمقالتي الأخيرة محور النقاشات المعاصرة في السياسة الخارجية الأميركية، وبعيداً عن معنى المصطلحات وتعريفها، أنا أتفق مع جيفري على المعضلة الأساسية: ما المصالح الأميركية المحورية والهامشية؟ يصعب التمييز بينها نظراً إلى وفرة المسائل الأمنية العالمية.لكننا نختلف حول المعايير التي يُفترض أن يستعملها صانعو السياسة الأميركية للتمييز بين تلك المصالح، ويظن جيفري أن الولايات المتحدة يجب أن تُخصص مواردها لأي مسألة تُهدد نظام الأمن العالمي الذي تدعمه. بعبارة أخرى، يجب أن تردع واشنطن روسيا في أوروبا، وتتصدى للصين في شرق آسيا، وتحتوي إيران في الخليج العربي، وتسيطر على الاضطرابات في شبه الجزيرة الكورية، وتنهي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتحارب "داعش" في أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا.يبرز في هذا المجال معيار مرن جداً يشمل مجموعة مكثفة من المطالب خدمةً للنظام الأمني المبهم الذي تعتبره معظم الدول الأخرى أداة للهيمنة الأميركية. في هذا الإطار يقول روبرت كاغان، وهو مدافع آخر عن هذه الاستراتيجية: "على غرار أي نظام عالمي آخر، يمكن فرض النظام العالمي الليبرالي. قد يرغب الغرب في فرضه عبر أفضل الطرق المثالية، لكن لا يمكن فرضه بشكل عام إلا عبر قوة كبرى"، وبما أن الصين وروسيا وتركيا ودولا أخرى كثيرة ترفض هذه النزعة أكثر من أي وقت مضى، فإن صعوبة الدفاع عن نظام الأمن العالمي ستزداد. يبدو هذا النظام شائباً منذ الآن أصلاً.لكن يشعر جيفري بالتفاؤل حول قدرة الولايات المتحدة على فرض هذا النظام في وجه الانقسامات الداخلية، وتصاعد نفوذ الصين، وتمرد روسيا، واستمرار الاضطرابات المزمنة في الشرق الأوسط، وكوراث متنوعة أخرى في مجال حقوق الإنسان حول العالم، حيث تتعلق الخطوة الأساسية برأيه بعدم المبالغة في توسيع النظام لأن هذه النزعة أساءت إلى السياسة الخارجية الأميركية طوال عقود، الأمر أشبه بأن نطلب من المدمنين على الكحول الذهاب إلى الحانة مع أصدقائهم المعتادين على الشرب شرط ألا يفرطوا في معاقرة الكحول، إنها مقاربة ممكنة نظرياً، لكن توحي التجارب السابقة بأن هذه النتيجة تبقى مستبعدة بشكل عام.تقضي استراتيجية أفضل بتجنب المقاربات القديمة بالكامل، فبالنسبة إلى أي دولة مدمنة على الصراعات، تُعتبر عادة واشنطن في الدفاع عن نظام الأمن العالمي مدخلاً لتوسيع سياسة التدخل، لذا سيستفيد المدمنون والمعتادون على التدخل المفرط من الانسحاب وتجنب الإغراءات منذ البداية.تقترح مقالتي معايير مختلفة، من خلال التمييز بين المصالح المحورية والهامشية، يجب أن يصغي صانعو السياسة إلى الشعب الأميركي لمعرفة المسائل التي تهمّه، وفي المقابل، يُفترض أن يشرح القادة لناخبيهم التأثير المباشر للسياسة الخارجية الأميركية على اهتمامات الناس اليومية بكلمات واضحة بدل التكلم عن طريقة تأثيرها على نظام أمني عالمي شبه غائب. لا تتعلق هذه المعادلة في المقام الأول بخلق فرص العمل، كما يفترض جيفري بأسلوب قاطع، بل إنها تهدف إلى ربط السياسة الخارجية الأميركية بالمسائل التي تهمّ معظم الأميركيين، أبرزها الهجرة، والتغير المناخي، والتكنولوجيا، وعدم المساواة بين المداخيل، وأخيراً فرص العمل أيضاً.سبق أن لاحظ المرشحون للرئاسة من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي أن الرأي العام بات يقلق من الخبراء الذين يراجعون الأخطاء المرتكبة في السياسة الخارجية الأميركية خلال العقود الأخيرة ثم يقولون: "ثقوا بنا لتحسين النتائج في المرة المقبلة"، فقد حان الوقت لتطبيق مقاربة جديدة ومبنية على الفكرة القائلة إن السياسة الخارجية الأميركية يجب أن تُركّز أولاً وأخيراً على خدمة الشعب الأميركي.* جيريمي شابيرو هو مدير قسم الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومسؤول بارز وغير مقيم في معهد "بروكينغز".
جيمس جيفري، جيريمي ش
مرشحو الرئاسة لاحظوا أن الرأي العام بات يقلق من الخبراء الذين يراجعون الأخطاء المرتكبة في السياسة الخارجية
يجب أن يصغي صانعو السياسة إلى الشعب الأميركي لمعرفة المسائل التي تهمّه
يجب أن يصغي صانعو السياسة إلى الشعب الأميركي لمعرفة المسائل التي تهمّه