يجب أن يحاول المراقبون تقييم مدى استقرار كوريا الشمالية اليوم بدرجة من التواضع، فقد كنا نظن في الماضي أننا نفهم الديناميات الداخلية للاتحاد السوفياتي، وشملت جهود الحرب الباردة التي ركزت على الاتحاد السوفياتي عمليات تجسس منسّقة، ودراسات أكاديمية عميقة وشاملة، ومعاهدات ونشاطات دبلوماسية موسّعة، كذلك، ربطتنا علاقات عسكرية ودبلوماسية وثيقة مع "نقطة تفتيش تشارلي" في برلين، وامتدت روابطنا على طول حدود "الستار الحديدي" وفي مختلف المساحات الجوية والبرية والبحرية، ثم اختبر حصار برلين وأزمة الصواريخ الكوبية قدرتنا على صنع القرار، مما أدى إلى ترسيخ قواعد تواصل محددة بِحُكم الواقع.

لكن رغم التركيز على هذه المسائل وإجراء تحليلات واسعة، كان سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 ثم انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 من الأحداث التي فاجأتنا، فنحن لم نتجاهل كوريا الشمالية منذ بداية الخمسينيات، لكنّ مستوى جهودنا ونجاحنا في توقّع ميل البلد إلى عزل نفسه عن العالم يبقيان أضعف بكثير من الجهود التي بذلناها مع الاتحاد السوفياتي، ومع ذلك، كانت تسمية البلد بعبارة "الدولة الفاشلة الجريئة" مفيدة لنا.

Ad

في ظل تراجع الدعم السوفياتي لبيونغ يانغ، بدا وكأن أيام كوريا الشمالية باتت معدودة لكنها صمدت، وأدى موت الزعيم المؤسس كيم إيل سونغ إلى تجدد التوقعات حول مستقبل كوريا الشمالية في عهد ابنه كيم جونغ إيل، فهل كان الابن يستحق أن يخلف والده؟ مهّدت موجة المجاعة الهائلة والأزمة الاقتصادية في منتصف التسعينيات (إنها مشاكل موثّقة في الرسوم البيانية التي طرحتها منظمات الإغاثة الدولية) لزيادة العمليات هناك وتوسّع الشكوك حول استقرار قيادة البلد. ثم أدت وفاة كيم جونغ إيل لأسباب طبيعية إلى نقل السلطة بين أبناء السلالة للمرة الثانية، لكن جاء دور الشاب غير المعروف كيم جونغ أون ذات القدرات المجهولة هذه المرة. أثبت هذا الأخير سريعاً أنه قادر على فرض الحُكم المطلق عبر إعدام جانغ سونغ ثايك، قيادي بارز في الحكومة وزوج عمّة أون، أي شقيقة كيم جونغ إيل، وارتبط قرار إعدام جانغ أيضاً بكونه من المرشّحين المفضلين لدى قيادة الحزب الشيوعي الصيني.

على مر هذه المرحلة، لم تكتفِ كوريا الشمالية بالصمود بل نجحت في تحقيق طموحها بالتحوّل إلى دولة مسلّحة نووياً وتملك أسلحة دمار شامل قادرة على بلوغ آسيا وما وراءها، فقد كانت كوريا الشمالية تطمح إلى تحقيق هذا الهدف منذ بداية الخمسينيات، بعدما هدد الجنرال ماك آرثر باستعمال الأسلحة النووية في الحرب، واليوم، تتجاوز قدرات أسلحة الدمار الشامل في كوريا الشمالية حدود الأسلحة النووية، واتّضحت إمكانات الأسلحة الكيماوية عند استعمال غاز الأعصاب "في إكس" لاغتيال كيم جونغ نام في مطار كوالالمبور في 13 فبراير 2017.

قد لا تتماشى ظروف كوريا الشمالية مع عدد كبير من العوامل التي تضمن استقرار الدولة المستقلة. ومع ذلك، لا يزال هذا البلد مستقراً وتزداد قدرته على تهديد الدول المجاورة له في المنطقة وما وراءها مع مرور الوقت، حيث يترسخ هذا الاستقرار أيضاً بفضل الردع الاستراتيجي، والقمع الداخلي، والموقع الجغرافي، وطبيعة التضاريس، والمعطيات الجيوسياسية، والظروف الاقتصادية.

يبدو أن امتلاك أسلحة دمار شامل واستعراض قوتها يرسّخان الاستقرار عبر زيادة ثمن إخضاع الآخرين، كذلك، يستفيد الوضع المالي في كوريا الشمالية مباشرةً من تجارة تكنولوجيا الأسلحة غير الشرعية، ويشارك مكتب اللجنة المركزية 39 في حزب العمال الكوري في هذه العمليات على الأرجح، وهو ينقل آخر المستجدات إلى كيم مباشرةً.

على صعيد آخر، يخضع الشعب الكوري الشمالي لتدابير رقابية وحشية، ويُحتجَز بين 100 و200 ألف كوري شمالي في معسكرات الاعتقال ويعيشون في ظروف مريعة ويتعرضون للتعذيب والإعدام، كذلك، تدخل أجيال متعددة من العائلات نفسها إلى السجن بسبب أخطاء فرد واحد، وتعتبر السلطات تسلل الثقافة الشعبية الكورية الجنوبية إلى البلد مصدر تهديد عليها، ويواجه كل من يملك أي أداة إلكترونية تسمح بالاطلاع على تلك الثقافة عقوبات صارمة. إلى جانب سوء التغذية العامة خارج أوساط النُخَب الحاكمة، يتراجع احتمال حصول أي شكل من الاحتجاجات لهذه الأسباب كلها.

تحافظ كوريا الشمالية على استقرارها أيضاً بفضل موقعها الجغرافي بين كوريا الجنوبية الديمقراطية والرأسمالية، والصين الشيوعية، وروسيا، وتبدي الصين اهتماماً كبيراً ببقاء كوريا الشمالية حاجزاً أمام الحُكم الليبرالي والأفكار والممارسات الاقتصادية المتحررة.

كذلك، تشكّل التضاريس الجبلية المعروفة في كوريا الشمالية عائقاً مخيفاً أمام حركة الناس بشكل عام، وهي تعوق تحديداً أي تحركات عسكرية محتملة. في الوقت نفسه، تزداد تهديدات الدمار الشامل التي تطرحها كوريا الشمالية بأسلحتها التقليدية بفضل مواقع مدفعياتها الصاروخية الخفية والبعيدة في مرتفعات "كايسونغ" التي تطلّ على واحدة من أكثر الدول المكتظة بالسكان في العالم، أي عاصمة كوريا الجنوبية سيئول. باختصار، تُعتبر التضاريس الجبلية الواسعة وشديدة الانحدار في أنحاء البلد رادعاً قوياً بحد ذاته.

ترغب روسيا والصين في صمود القيادة المستقرة في كوريا الشمالية، حتى لو شعرتا بالاستياء من أدائها من وقتٍ لآخر، وفي المقابل تدعم اليابان، وكوريا الجنوبية، وحلفاء وأصدقاء آخرون للولايات المتحدة الأهداف الأميركية في المنطقة، لا سيما تلك التي تتعلق بردع أي هجوم من كوريا الشمالية. تُجمِع هذه الأطراف كلها على خطورة نظام كيم ولا تعتبر استمراره مؤكداً بأي شكل، فهي تدرك جيداً أن الأضرار الجانبية ستطاول دول المنطقة على الأرجح في حال اندلاع أي صراع، ولهذا السبب، تدعم تلك الدول الوجود الأميركي ونظام الردع الذي تضمنه واشنطن، وفي مطلق الأحوال، يبقى الهجوم الاستباقي مستبعداً، حتى لو فشلت كوريا الشمالية أحياناً، لا أحد مستعد لتحمّل كلفة تسريع ذلك اليوم.

تكمن المفارقة في قدرة اقتصاد السوق في أي دولة ستالينية على تعزيز الاستقرار، لقد أجبرت الظروف المريعة التي تلت مجاعة التسعينيات نظام كيم على تطبيق نسخة مخففة وضمنية من اقتصاد السوق في كوريا الشمالية، إذ تسهم التجارة بين البلدات والمجتمعات في رفع مستوى المعيشة وزيادة تحصيل الضرائب، مما يؤدي إلى ترسيخ استقرار النظام الدكتاتوري.

لا شيء يضمن استمرار كوريا الشمالية كدولة استبدادية مسيئة تملك أسلحة خطيرة وتبدي استعدادها الدائم لاستعمالها، وما نظن أننا نعرفه عن كوريا الشمالية يثبت أن التغيير مستبعد، لكننا كنا مخطئين أيضاً بشأن الاتحاد السوفياتي خلال التسعينيات.

● والاس سي. غريغسون – ناشونال إنترست

والاس سي. غريغسون – ناشونال إنترست