ما التطورات المحتملة في أفغانستان خلال ثلاث أو خمس سنوات بعد انسحاب القوات الأميركية؟قد يتحقق واحد من أربعة سيناريوهات محتملة في أفغانستان خلال السنوات المقبلة: استمرار الوضع السياسي الراهن، أو عقد اتفاق لتقاسم السلطة بين حركة طالبان ومجموعة أساسية من سماسرة السلطة الأفغان من دون توسيع حملة سفك الدماء، أو نجاح «طالبان» في تحقيق مكاسب سريعة في ساحة المعركة وفي الصفقات السياسية، أو اندلاع حرب أهلية مطولة ومتقطعة.
تبدو أسوأ السيناريوهات واقعية أكثر من غيرها، ومن المستبعد أن يتحقق السيناريو الأول ويستمر النظام السياسي القائم ويشمل انتخابات تنافسية والتزاماً دستورياً بحقوق الإنسان والمرأة والأقليات، فقد باتت «طالبان» قوية عسكرياً وبارعة في المساومة السياسية لدرجة أن تصبح هذه النتيجة مستحيلة، حيث تريد الحركة إحداث تغيرات اجتماعية وسياسية عميقة، ولا أحد يعرف حجم الخسائر التي سيتكبدها النظام الراهن وعدد الضحايا المحتملين في خضم هذه العملية.في ظل نشوء هذه السيناريوهات المستقبلية المحتملة، يمكن توقع اشتداد القتال طوال سنة في الحد الأدنى، إذ من المنتظر أن تطلق «طالبان» عملية هجومية قوية بدءاً من أواخر صيف 2021 وصولاً إلى عام 2022 على الأقل، ولن تبدأ أي مفاوضات أفغانية داخلية جدّية على الأرجح إلا إذا احتفظت قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية بعدد كافٍ من عناصرها وتجنبت الانشقاقات خلال تلك الفترة (وهزمت «طالبان» في أفضل الأحوال).على أرض الواقع، سيتوقف الوضع المرتقب على براعة مجموعات عدة من اللاعبين في تجنب الانقسامات.تؤثر أربعة عوامل داخلية أساسية على مستقبل أفعانستان:يتعلق العامل الأول بصمود قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية وعدم استسلامها وتفككها بسبب الضغوط العسكرية القوية المتوقعة من «طالبان» في أواخر صيف عام 2021، حين تنسحب جميع القوات العسكرية التابعة للولايات المتحدة وحلف الناتو ومعظم المقاولين العسكريين (أو ربما كلهم) من أفغانستان. يستكشف المعنيون اليوم احتمال بقاء عدد منهم بموجب ترتيبات جديدة تحت إشراف الحكومة الأفغانية مباشرةً.أحرزت قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية بعض التقدم على مر العقد الأخير، لكن لا تزال المشاكل القائمة منذ عشر سنوات على حالها اليوم، منها ضعف الخدمات اللوجستية وإعادة الإمدادات والصيانة، حتى في أوساط القوات الجوية الأفغانية، إذ لم تضعف قوات الدفاع والأمن الوطنية بسبب غياب القدرات اللازمة فحسب، بل نتيجة استفحال الفساد، واشتداد الانقسامات بين عدد معيّن من القادة والممولين، وضعف قيادة الوحدات، وصعوبة السيطرة على الأراضي، وغياب الخبراء في مجالات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والإخلاء الطبي، وانعدام الجهوزية والرغبة في إطلاق عمليات هجومية ضد «طالبان»، والعجز عن الاحتفاظ بالعناصر الناشطة، وسقوط عدد مرتفع جداً من الضحايا. تجتمع هذه الشوائب كلها لإضعاف تماسك البلد، وباستثناء قوات الأمن الأفغانية الخاصة التي استُنزِفت بأسوأ الطرق، لم تشارك القوات التقليدية والشرطة في المعركة ضد «طالبان» إلا في حالات نادرة. قد تتسارع هذه النزعة في المرحلة المقبلة، لا سيما إذا نجحت «طالبان» في الحفاظ على ما يكفي من الانضباط لتجنب أي عمليات انتقامية ضد وحداتها التي تعقد هذا النوع من الصفقات.يمنع التمويل الأميركي انهيار قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، فلن يصبح هذا التمويل مُهدداً بالزوال هذه السنة أو في السنة المقبلة، لكن يجب أن يستمر مستقبلاً، ويدعم الحزبان الجمهوري والديمقراطي استمرار تدفق الأموال إلى أفغانستان، لكن لا أحد يعرف مدى استعداد قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية للتكيف مع غياب الدعم الأميركي الميداني، ولذا يفكر البعض في الولايات المتحدة بخيارات الاستشارة عن بُعد.يتعلق العامل المؤثر الثاني بنوع الضغوط العسكرية التي تمارسها «طالبان»، فقد استولت هذه الحركة على عواصم المقاطعات الأفغانية في مناسبات متكررة، وهي تحاصر عدداً منها في الوقت الراهن وتستطيع زيادة ضغوطها سريعاً في عدد إضافي من المناطق، كذلك، غالباً ما تكون سيطرة كابول على بعض عواصم المقاطعات والمناطق ظاهرية، فيتجول المسؤولون وسط المواكب وتسيطر «طالبان» على دخولهم إلى المنطقة وخروجهم منها وحياة الناس في الشارع. كانت القوات الجوية الأميركية الجهة الوحيدة التي منعت «طالبان» من الاحتفاظ بعواصم المقاطعات التي كانت تتحكم بها سابقاً، مثل قندوز وغزنة، لكن هل تستطيع «طالبان» أن تنهض مجدداً وتغزو عدداً من عواصم المقاطعات في الوقت نفسه؟ في هذه الحالة، ستواجه قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية مصاعب كبرى وستزداد الضغوط التي تُمهّد لتفككها.في غضون ذلك، قد يؤدي انسحاب الأميركيين وقوات الناتو إلى زيادة الضغوط على «طالبان» وتوسّع انقساماتها الداخلية، فقد كان السبب الأساسي وراء نشوء حركة التمرد يتعلق بطرد الجنود الأجانب، وبعد تحقيق هذا الهدف، قد يفضّل بعض المقاتلين في «طالبان» وقف القتال، إذ يُعتبر الخوف من الانسحاب من ساحة المعركة جزءاً من العوامل التي تمنع «طالبان» من الموافقة على وقف إطلاق النار لأكثر من بضعة أيام، لكن «طالبان» نجحت في الحفاظ على سيطرتها خلال التسعينيات واستمرت سطوتها منذ ذلك الحين رغم تعرّضها للقصف الأميركي طوال عقدين.ربما يتعلق أبرز عامل شائك يؤثر على تماسك «طالبان» الداخلي بعلاقة القوة بين القادة العسكريين الميدانيين في «طالبان» ومجالس الشورى في كويتا وبيشاور.على صعيد آخر، ترافقت جهود الاستهداف الأميركية المكثفة طوال عشرين سنة مع نتائج عكسية على الأرجح، فقد كان حلف الناتو والولايات المتحدة يأملان إضعاف «طالبان» وتفكيكها عبر التخلص من قادتها، لذا استهدف الطرفان عدداً من القادة الأكبر سناً، ولا يحمل جزء كبير من قادة «طالبان» العسكريين اليوم ذكريات كثيرة عن الحرب الأهلية خلال التسعينيات، بل إنهم مرتبطون بحركة الجهاد العالمية ومتعطشون للسلطة، وقد ابتكروا آليات تمويل محلية قوية (عبر جمع الضرائب المفروضة على كل شيء). بعبارة أخرى، لن تقبل هذه المجموعة بسلطة رمزية على الأرجح، كذلك، لم يتّضح بعد مدى استعداد القادة لتقديم التنازلات في المسائل الاجتماعية على المستوى الوطني، لذا كان يُفترض أن ترتكز حملات الاستهداف الأميركية على نزعة «طالبان» إلى تقديم التنازلات في المفاوضات تزامناً مع استهداف القادة الأكثر تعطشاً للسلطة مقابل تجنّب القادة الأكثر ميلاً إلى عقد الصفقات والمساومة، إذ يُعتبر قتل المُلا أختر محمد منصور عام 2016 خير مثال على أولويات الاستهداف الخاطئة.تجنّب المفاوضون التابعون لحركة «طالبان» إطلاق مواقف محددة حول مسائل مثل تغيير الدستور الأفغاني وحقوق المرأة والأقليات بسبب الشكوك المحيطة بأولوياتهم وديناميات السلطة بين قيادة «طالبان» والقادة العسكريين، ولكشف النوايا الحقيقية، تبرز الحاجة دوماً إلى مساومة دقيقة ومعقدة داخل «طالبان»، لكن تفضّل قيادة الحركة تأجيل هذه المسألة لأطول فترة ممكنة.مع ذلك، من المستبعد أن ينقسم كبار القادة العسكريين في «طالبان» لدرجة أن تصبح الحركة كلها مُهددة لفترة معيّنة، ولن يحصل ذلك على الأقل قبل الاتفاق على ترتيبات وطنية واضحة لاستلام السلطة، ففي المرحلة اللاحقة، قد يقرر بعض القادة المستائين التحالف مع تنظيم «الدولة الإسلامية» في ولاية خراسان، لكن قد يميل معظمهم على الأرجح إلى التحرك بمعزل عن الآخرين.أما العامل المؤثر الرابع، فيتعلق بالنخبة السياسية الأفغانية، حيث لن يتأثر الوضع باحتمال أن تتفكك هذه النخبة التي أصبحت شديدة الانقسام أصلاً، بل باحتمال أن تتماسك في اللحظة الأخيرة نتيجة صمود النظام السياسي الذي أصبح على المحك.في آخر عشرين سنة، حاول عدد كبير من السياسيين وسماسرة السلطة الأفغان تحقيق مصالح مادية ضيّقة، ولم يترددوا في خلق حواجز وأزمات سياسية وصراعات عنيفة حين يناسبهم الوضع، كذلك، كانت نزعتهم الدائمة إلى تسييس جميع المسائل كفيلة بإضعاف الحُكم، ويمكن نَسْب جزء كبير من قوة «طالبان» اليوم إلى مقاربتهم الوحشية والجشعة والمتقلبة في حُكم البلد.في عام 2021، تأججت الانقسامات داخل النخبة الأفغانية، فتسابق عدد من سماسرة السلطة على مناصب أساسية في الحكومة المؤقتة التي دعمتها الولايات المتحدة عبر «عملية إسطنبول» الشائبة.منذ منتصف شهر مايو يحاول سماسرة السلطة في أفغانستان التحالف مع الرئيس أشرف غني لإنشاء مجلس وحدة وطنية وإثبات تماسكهم أمام «طالبان»، وقد بدأت مفاوضات مكثفة لتحقيق هذا الهدف، لكن سرعان ما تباطأت هذه الجهود، كما جرت العادة، بسبب احتدام المنافسة على السلطة بين السياسيين، وحتى لو نشأ هذا المجلس فعلاً، يصعب أن يتحول إلى إثبات حاسم حول الوحدة السياسية في وجه «طالبان»، وفي آخر سنتين، شاركت «طالبان» في مفاوضات مكثفة مع سماسرة السلطة في معاقل جماعات البشتون الجنوبية التابعة لها، وحتى مع سياسيين من الطاجيك وأقليات أخرى في الشمال. بدأت هذه المفاوضات قبل وقت طويل من المحادثات المرتبطة بمجلس الوحدة.إذا نجحت «طالبان» في استمالة عدد كافٍ من سماسرة السلطة عبر إطلاق وعود بإشراكهم في الحكومة التي تنوي تشكيلها وإذا بدأت عواصم المقاطعات تسقط بيد مقاتليها، فستميل الكفة، مؤقتاً على الأقل، لصالح السيناريو الثالث الآنف ذكره.
دوليات
أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي... التطورات الداخلية المحتملة
02-07-2021