بعد وصول بايدن إلى الرئاسة الأميركية في يناير الماضي، بدأت إدارته تراجع السياسة الأميركية في سورية والحرب الأهلية المستمرة هناك، وحاولت هذه المراجعة أن تنقلب على سياسات إدارة ترامب التي غيّرت الأولويات الأميركية في سورية ونقلتها من محاربة تنظيم «داعش» بكل بساطة إلى التصدي لإيران وحماية النفط السوري من بشار الأسد، واشتقّت السياسة المعتمدة في عهد ترامب من خصوصيات الإدارة الأميركية، حيث رفض الفريق الذي عيّنه ترامب للإشراف على هذه السياسة جهوده الرامية إلى سحب القوات العسكرية، فبدأت إدارة بايدن تُعدّل السياسة الأميركية كي تُركّز على هزم «داعش» وقد جرّدت الأهداف الأميركية من أي مفاهيم مرتبطة بحماية المنشآت النفطية أو مجابهة عملاء إيران في المناطق التي يسيطر عليها النظام.

هذا التحول السياسي هو انعكاس براغماتي لأهداف الإدارة الأميركية الشاملة. لقد نقلت الولايات المتحدة أولوياتها من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ في حين تحاول إصلاح العلاقات المتوترة مع أقرب حلفاء واشنطن في أوروبا. تتعلق أبرز الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط بالتوصل إلى اتفاق مع إيران حول العودة إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» وكيفية رفع عقوبات ترامب تدريجاً، وتُعتبر الحرب الأهلية السورية جزءاً من الأولويات أيضاً، لكن لم تعد سياسة الإدارة الأميركية مرتبطة بطموحات إقليمية أوسع نطاقاً، بما يشبه جهود فريق ترامب لإسقاط النظام الإيراني عن طريق العقوبات أو منع شركاء واشنطن العرب من تحديث سياستهم عبر التواصل مع دمشق.

Ad

لا يزال النظام السوري هشاً وغير كفء، لكنه يحظى بدعم بوتين وإيران، حتى أنه صمد في وجه الثورة التي قادتها المعارضة طوال عشر سنوات، فلا يسيطر النظام على كامل البلد، لكن المعارضة تبقى أضعف من أن تطلق عمليات هجومية لاسترجاع الأراضي، ويواجه البلد اليوم كارثة اقتصادية نتيجة انهيار القطاع المصرفي اللبناني، وتداعيات تفشي كورونا، والعقوبات الأميركية، والجفاف الحاد الذي أضعف المحاصيل الزراعية، ودمار البنى التحتية. ترتبط المصالح الأميركية راهناً بهدفَين متلازمَين: زيادة المساعدات الإنسانية، والحفاظ على وجود عسكري أميركي لمحاربة «داعش».

تتعلق أولى الأولويات بالمداولات الحاصلة في مجلس الأمن والتفويض المرتبط بتسليم المساعدات عبر الحدود إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، فقد سمح الاتفاق المبرم في عام 2014 بنشوء أربعة معابر، لكن ذلك العدد تراجع وبات يقتصر على معبر واحد بسبب المعارضة الروسية والصينية، كما ستنتهي صلاحية التفويض المرتبط بالمعبر الأخير في 10 يوليو المقبل، وقد يُحرَم شمال غرب سورية من آخر معبر له مع تركيا ما لم يتم تمديد الاتفاق، وبرأي روسيا، تمثّل دمشق الحكومة السورية المستقلة، لذا يُفترض أن تسلّم الأمم المتحدة المساعدات إلى البلد عبر العاصمة حصراً.

خصصت إدارة بايدن بعد استلامها السلطة 50 مليون دولار دعماً لجهود الاستقرار، علماً أن هذه المساعدة كانت قد تجمّدت في عهد ترامب ويتم إنفاقها في المقام الأول في شمال شرق سورية، يُضاف هذا التمويل إلى مساعدات إنسانية بقيمة 600 مليون دولار لجميع مناطق سورية، بما في ذلك اللاجئون في الدول المجاورة، كذلك، قررت إدارة بايدن أن تحتفظ بقواتها الميدانية وموارد القوات الجوية الأميركية لدعم «قوات سورية الديمقراطية»، أي القوة الشريكة التي قادت المعركة ضد «داعش»،فهذه المسألة تحتل المرتبة الثانية على قائمة أولويات الإدارة الأميركية.

يتوقف الوجود الأميركي الميداني على آليتَين متداخلتَين لإدارة العمليات الجوية والبرية الأميركية والروسية، فقد استعملت هاتان الآليتان نهر الفرات كخط فاصل بين الطرفين، لكن الوضع تغيّر بعد الغزو التركي لشمال شرق سورية في أكتوبر 2019، مما أدى إلى تسريع الانسحاب الأميركي من المناطق الحدودية وتحرّك روسيا لاستبدال المواقع الأميركية، فأصبح الأميركيون والروس على مسافة قريبة من بعضهم اليوم لكن الظروف الراهنة تختلف عن تلك التي سبقت أكتوبر 2019.

أبلغت إدارة بايدن موسكو علناً بأنها تنوي البقاء في سورية، فأرسلت وفداً رفيع المستوى لمقابلة قادة «قوات سورية الديموقراطية» وإبلاغهم بالقرارات السياسية الأميركية، إذ تشمل هذه الجهود أيضاً تواصلاً مكثفاً مع تركيا، وهو عامل ضروري لزيادة المساعدات الأميركية المرتبطة بإرساء الاستقرار، وهذا التواصل هو اعتراف بأن تركيا وروسيا لهما علاقات منفصلة في سورية انطلاقاً من «عملية أستانا»، وتُركّز هذه العملية على إصلاح الدستور السوري وقد شكّلت آلية تستعملها أنقرة وموسكو للسيطرة على الاضطرابات وتقديم التنازلات في المسائل الكبرى.

وحاولت إدارة بايدن أن تستفيد من هذه العلاقة، لا سيما في مسألة تعزيز الاستقرار والتوصل إلى تسوية حول تسليم المساعدات بين المناطق التركية وتلك التي يسيطر عليها النظام، ويبدو أن الصيغة الأساسية في هذا المجال تقضي بتقديم مساعدات إضافية، فقد تزيد هذه الصيغة حجم المساعدات الأميركية الإجمالية إلى الأمم المتحدة، وستشمل بالضرورة المزيد من المساعدات عن طريق دمشق، كما تلبّي هذه التسوية جزءاً من رغبات روسيا لكن من دون إضعاف الجهود الأميركية في شمال شرق البلد وشمال غربه.

لا تزال موسكو ملتزمة بدعم الأسد وهي تتمسك بسياسة ثابتة في سورية، وتُركّز هذه السياسة على تدريب القوات المسلحة السورية وتزويدها بالمعدات، وتقديم الدعم الجوي والمشاركة في العمليات الخاصة، وحماية النظام دبلوماسياً في الأمم المتحدة وهيئات دولية أخرى، وقد أعطت هذه الجهود ثمارها، لا سيما في ساحات المعارك، وأصبح النظام آمناً، حتى لو تدمّر البلد وانهار اقتصاده بالكامل، وفي غضون ذلك تتركز المعارضة في إدلب وتحظى بحماية تركيا لكنها تعجز عن إطلاق أي عمليات هجومية، ومن وجهة نظر روسيا، منعت موسكو انهيار الدولة في بلدٍ تعتبره شريكها الإقليمي.

لا تتفاوض الولايات المتحدة مع روسيا مباشرةً، لكنها تبدي استعدادها لإعادة إحياء جهود دبلوماسية مباشرة ومثمرة شرط أن تثبت موسكو حسن نواياها. هذه المقاربة تختلف عن نهج إدارة بايدن العام في تعامله مع روسيا، لكنها تتماشى مع الجهود الشاملة لإعطاء طابع متوقع إلى هذه العلاقة الثنائية وحصرها بالمسائل التي تسمح للطرفَين بالسيطرة على الاضطرابات، حيث ناقشت الولايات المتحدة وروسيا الحرب الأهلية السورية خلال القمة الثنائية في جنيف، وفي ظل تقارب القوات الأميركية والروسية اليوم، من مصلحة واشنطن أن تحدّ من التفاعلات السلبية في أي صراع هامشي مثل سورية. قد يُمهّد أي تنازل روسي حقيقي حول إرساء الاستقرار لإجراء محادثات هادئة بشأن الحرب، فيحصل البلدان حينها على مساحة معينة لفهم مصالح الطرف الآخر على المدى الطويل، وقد لا يُحقق هذا المنتدى نتائج ملموسة، لكن يمكن استعماله للتحكم بالخلافات أو تحويله إلى قناة خلفية لطرح الاقتراحات وإعطاء وقف إطلاق النار طابعاً رسمياً في أنحاء البلد.

لقد حصرت إدارة بايدن الأهداف الأميركية في سورية وتخلّت عن سياسة ترامب العامة والهشة قانونياً، فتقضي هذه السياسة الجديدة بالحفاظ على وجود أميركي غير محدود في شمال شرق سورية لضمان استمرار استهداف تنظيم «داعش» في ذلك البلد، كذلك، تبدو الإدارة الأميركية ملتزمة بتوفير الأموال لاسترجاع الاستقرار بناءً على اتفاق يحظى بدعم روسيا، فأصبحت مكانة نظام الأسد راسخة في السلطة وأعلنت واشنطن أنها لن تتخذ أي خطوة لإسقاطه بل ترغب في إنشاء علاقة أكثر ثباتاً مع روسيا في سورية.

لقد أصبحت الكرة اليوم في ملعب موسكو، لكن إدارة بايدن أوضحت في الوقت نفسه أنها ستحتفظ بقواتها في سورية وأنها مستعدة لزيادة المساعدات الأميركية لتجاوز الوضع الكارثي.