هي فن الممكن، ودونها الحروب وما يتفرَّع عنها أو يندرج تحتها من انقلابات وثورات وعنف وأداء يتجاوز هذا الفن.تعلو صرخة إسرائيل لمنع إبرام أو إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ثم يُنحَّى نتنياهو لتمرَّر الصفقة، وكأنها جاءت رغماً عن إرادة إسرائيل وخلافاً لرغبتها، في حين لم تكن الصرخة إلا لتكبيل إيران بالاتفاق، فهو المتاح الوحيد لمنعها من الوصول للقنبلة الذرية! الحقيقة أن إسرائيل عاجزة عن ردع إيران والحؤول دون دخولها في النادي النووي، ولو استطاعت لفعلت، كما فعلت بالعراق ومصر من قبل، ولا شيء يحقق هدفها مثل الاتفاق النووي الذي أبطله ترامب، وبات من الضرورة بمكان العودة إليه، وقلب "الإبطال" إلى "التعطيل"، الذي أتاح الفرصة لخيارات أخرى تسابق الزمن، لم يفلح أي منها، فوجبت العودة واستئناف ما توقف.
الضربات التي تلقتها إيران من إسرائيل، سواء عبر العمليات السيبرانية، التي نالت من أجهزة الطرد المركزي، أو الإرهابية المباشرة مثل حريق مفاعل نطنز، واغتيال العلماء النوويين الإيرانيين، أو حتى الحربية المتمثلة في ضرب قواعدها المتقدمة في سورية واليمن والسفن العائمة في المضائق الاستراتيجية في البحر الأحمر... كانت غاية الجهد ونهاية الوسع، وقد ثبت أنها لم تعطل المشروع، بل دفعته نحو التقدم والتسارع!أدرك الإسرائيليون والغربيون عموماً، ألا سبيل إلا التكبيل! والعودة إلى الاتفاق النووي، وهم اليوم يفاوضون ويناورون لدفع أقل الأثمان مقابل هذا الكنز الثمين الذي ينتزعونه من إيران أو تقدِّمه هي لهم. في عالم السياسة، يعرف كلُّ طرف حجمه وقوته، وقدرته على الفعل، والمدى الذي يمكن أن يبلغه في هذه المعركة وتلك، وبالتالي حقه في الكسب والحصاد وجني الثمار، كما يعرف نطاق التنازل والتراجع، ومدى المرونة المتاحة، ثم الخطوط الحمراء والحدود القاسية التي دونها الهلاك والفناء.هذا شاهد ونموذج أردت تقديمه لبيان فكرة أن السجال يدور في نطاق المتاح، والصراع يحتدم في دائرة الممكن... هذه هي السياسة. وما يفترض أنه بديهة فيها، لكن الجهل والغفلة والأداء المتخلِّف "للمعارضة" الكويتية جعلها مستغربة أو عصية على العقول، فقد شوهها الحراك بطيشه وحماسته، وطمسها الغوغاء بصخبهم وجلبتهم، وضيعتها الحسابات المأجورة بدجلها وشيطنتها، حتى انطلت اللعبة على النخبة، فانخرطوا فيها والتحقوا بركبها، أحصنةً تجر العربة، "والحوذي" يمسك بلجامها لتنعطف وتقف تارة، ويلسعها بسوطه لتتقدم وتندفع أخرى!لا شك أن الأداء والنهج الذي تسلكه المعارضة، أثبت فشلاً ذريعاً وسجَّلت عقماً لا نظير له، والكتاب يقرأ من عنوانه، فالإنتاج والإنجاز هو صفر كبير، يكتب بالأحرف ويرسم بالرقم نقطة على السطر تعني النهاية. لقد استُدرجت المعارضة وأُسقطت في مهازل سياسية غير مسبوقة، جعلتها تصب جهدها على ما هو بالشكل عن المضمون، فتنشغل بلعبة المقاعد على غرار رياض الأطفال، وتدخل في عناد الصبيان، فتعطل الحياة البرلمانية أشهراً لتستعيد قراراً قدَّمته لقوى الموالاة على طبق من ذهب، جاء على حين غفلة منها وغباء، انتُزع بالتصويت وهي معتصمة خارج القاعة... ولعمري، فإن عقدة الرئاسة ستعود لتلقيهم في دوامتها إذا كتب لهم يوماً الخروج من هذه وتلك.لقد انكشف للقاصي والداني أن صفوف المعارضة تخلو من سياسي محنك واحد يفهم اللعبة، وضليع خبير يجيد المناورة، وماهر عاقل يحسن التدبير والحيلة... وثبت للحاضر وسجل التاريخ أنها ليست إلا زمرة غارقة في الاستعراض، وتسجيل مشاهد تمثيلية تستغفل الناخب، ترقباً لحل المجلس وانتظاراً للانتخابات القادمة، وعلى البلاد والعباد السلام!غابت كل الوعود، واختفت كل العهود، وتبددت كل الأماني والآمال، وسقطت اللائحة الطويلة التي ركبوا ظهرها لدخول المجلس من تجنيس البدون إلى محاربة الفساد، ليتحولوا إلى مجرَّد أحصنة تجرُّ عربة السيد، و"صبيان" في حاشيته. هذا الأداء السفهائي الاستعراضي، ستكون محصلته الأولى سقوط المطالب المحقة التي تنادي بها المعارضة الحقيقية، من الإصلاح الإداري ووقف الهدر ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة والنزاهة والمساواة، فهذه التجربة الرعناء ستشكل رقماً مؤلماً وشاهداً ناطقاً على فشلها، وترسخ في الوجدان كذبها وعبثيتها! وستكون السلطة، ولا سيما الفاسدين فيها، هم أكثر المستفيدين من هذه "المعارضة" الكاذبة المزيفة.ولأن المعركة أصلاً شخصية، والصراع بين أقطاب، سواء من التجار أو الأسرة، فإن المعارضة (الأحصنة التي تجر العربة) سريعاً ما أُنهكت وأخذها الإعياء، فما عادت تطيق إلا جرَّ خطاها الثقيلة، وتسجيل فيديوهات تجتر فيها ما كانت تلقيه أيام الانتخابات، وكأنها لم تنجح ولا باتت رقماً في مجلس الأمة يفترض أن يقلب الموازين ويغيرها رأساً على عقب. والبلاء لا يقف عند جهل السياسيين بالسياسة، وافتقادهم الحنكة والمهارة وفن اللعبة، بل بالتيه الذي يعيشه إسلامي رضع من ثدي الدعوة، وشرب من مستنقعها الكدر، فضاع وتاه حتى ما عاد يحسن الصلاة على النبي، ويقلبها إلى نقمة تحل به ولعنة تنزل عليه!
مقالات
السياسة بين الإنجاز والاستعراض
04-07-2021