العدالة عمياء
العدالة عمياء... مقولة فلسفية يُقصد منها بيان أنّ مَن يتولى القضاء والفصل في المنازعات يتّسم بالحياد المطلق، الذي يجعله لا يرى أشخاص المتخاصمين، وما قد عساه أن يكون له من علاقات، أيًا كانت، تربطه بهم، ولذا، فهو لا يرى إلا الموضوع مجرداً وبعيون تكاد تكون عمياء عن أي اعتبار آخر.ومن ذلك، فإنّ فلسفة الإجراءات غايتها تعزيز الضمانات وحماية الحقوق وبلوغ أقصى درجات العدالة، ولا يمكن أن تكون الإجراءات غايتها وأدُ الحق أو جحده، أو التنكر له، وليست الغاية إنكار العدالة.وعليه، فإنّ القضاء هو الذي يطوّع الإجراءات لحملها على نحو تصل به إلى إقرار الحقوق بإرساء العدالة وصيانة الحق، وإلّا فإن العدالة تكون عرجاء، ولن يتمكن القضاء من الوصول إلى الإنصاف والحقيقة لإرساء دعائم العدالة. وقد سار على هذا النهج القضاء المقارن في الدول المتقدمة، مثل بريطانيا وفرنسا والدنمارك وفلندا، وغيرها.
وكلما أغرق القضاء بالإجراءات، ولاذ بها، لتجنّب الفصل بالموضوع وإحقاق الحق، تمسّكاً بالشكل والإجراء، على حساب الحق، كان منكراً للعدالة وجاحداً لها، ولا يمكن أن يتصف هذا القضاء بالعدالة، تحت أيّ حجة أو مبرّر.فالإجراءات والشكل إنّما قُرّرا لتيسير تحقيق العدل وبلوغه بكل ضماناته وأبعاده، لا جحده ولا غمطه، ولا يكون ذلك بإشاحة الوجه عنه وتجنّب إبصاره ورؤيته وإحقاقه. ومن هنا ندرك حكمة مقولة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في رسالته المشهورة لأبي موسى الأشعري: "أما بعد، فإنّ القضاء فريضة مُحكمة وسنّة متّبعة، فافهم إذا أُدلي إليك بحُجّةٍ، وأَنفِذ الحق إذا وضح، فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له، وآسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس، فراجعت اليوم فيه عقلك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإنّ الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما أُدلي إليك مما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنّة نبيه، ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقِس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادّعى حقاً غائباً أو بيّنة أمداً ينتهي إليه، فمن أحضر بيّنة أخذت له بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت القضية عليه، فإنّ ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلّا مجلوداً في حدّ أو مجرباً عليه بشهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإنّ الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفّف بالخصوم، فإنّ الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر... والسلام".ويحسُن بالقضاء في بلادنا وبلاد المسلمين ألّا تكون الإجراءات والشكليات حائلاً بينه وبين بلوغ العدالة وإرساء الحقوق، ولا يجوز أن تكون الإجراءات والشكليات مدخلاً يغمط الحقوق ويجحد العدل. ولن تشفع الإجراءات والشكليات لقاضٍ أدرك الحق وعلمه وفهمه، فأشاح بوجهه عنه، تمسّكا بالإجراءات والشكل، ولم يُظهر العدل، الذي هو ميزان الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.ولنحرص على الامتثال لقوله تعالى "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِٓ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا".