لم يكن انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران مفاجئاً بأي شكل، فقد اعتُبِر المرشحون الذين يطرحون تهديداً عليه غير مؤهلين للمشاركة في الانتخابات. اختاره المرشد الأعلى علي خامنئي لأن عدداً قليلاً من المرشحين يعبّر عن أيديولوجيا الجمهورية الإسلامية بقدره، فهو لن يزيد انفتاح إيران على العالم الخارجي ولن يحاول التكيّف مع الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال، وفي ما يخص سلوك إيران في الشرق الأوسط، أوضح رئيسي أن الموضوع "غير قابل للتفاوض".جاء الصراع بين إسرائيل وحركة "حماس" في الشهر الماضي ليذكرنا بأن جميع أحداث الشرق الأوسط مترابطة، وعند التكلم عن صواريخ "حماس"، أو استمرار الوضع الكارثي في اليمن، أو الاتفاق النووي الإيراني، يكون دور طهران في زعزعة استقرار المنطقة العامل المشترك بين هذه المسائل كلها.
أصبح السبب الذي يدفع الرئيس الأميركي جو بايدن للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة مفهوماً، ويجب أن تُضعِف الولايات المتحدة برنامج إيران النووي ثم تستعمل الوقت المتبقي قبل انتهاء مدة أحكام الانقضاء لفرض اتفاق أطول وأكثر قوة كما ترغب إدارة بايدن، أو لتعزيز نظام الردع الأميركي كي تفهم طهران أن الولايات المتحدة ستمنعها من تجاوز العتبة النووية المسموح بها.لكن رغم أهمية احتواء برنامج إيران النووي، فلن يكون هذا الهدف كافياً، ويجب أن تتصدى الإدارة الأميركية أيضاً للجهود الإيرانية المتصاعدة في المنطقة: بعد تخفيف العقوبات نتيجة تجديد الالتزام بخطة العمل الشاملة المشتركة، ستزيد الموارد التي تسمح لطهران بإثارة المشاكل، فقد أدت حملة "الضغوط القصوى" التي أطلقها دونالد ترامب إلى الحد من الموارد التي تستطيع إيران توفيرها للجماعات المتطرفة مثل حزب الله في لبنان، والميليشيات الشيعية في العراق، وحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في الأراضي الفلسطينية، لكنها لم تمنع إيران يوماً من مواصلة التدريبات وتأمين الأسلحة ومواد أخرى وتقديم المساعدات التقنية.بعد الصراع الأخير مع إسرائيل، بالغ قادة "حماس" في الإشادة بطهران نظراً إلى المساعدة التي قدّمتها لهم، وكشف تسجيل صوتي أن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، شعر بالاستياء لأن فيلق القدس التابع للنظام الإيراني يُضعِف دوماً الأهداف التي يريد تحقيقها عن طريق الدبلوماسية. كذلك، يريد خامنئي أن يثبت أن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة لا تعني أنه يتخلى عن فكر المقاومة، ولهذا السبب، يسهل أن نتوقع توسّعاً إيرانياً في اليمن والعراق وسورية ولبنان، فضلاً عن زيادة التهديدات المطروحة على الدول المجاورة.يفسّر هذا الخوف من الأجندة الإيرانية الإقليمية معظم المواقف المعارِضة لخطة العمل الشاملة المشتركة منذ الاتفاق عليها وصولاً إلى هذا اليوم. شعر المسؤولون في الكونغرس الأميركي وقادة الدول في الشرق الأوسط بالقلق حينها من أن تعلن الإدارة الأميركية وشركاؤها الأوروبيون "إقفال" الملف النووي لأن التهديد الإيراني بات محدوداً ومحصوراً بالأزمة النووية، لكن النقاد في المنطقة يعتبرون تلك الأحداث الماضية مقدّمة لما يحصل اليوم: مثلما أصبحت إيران حينها أكثر نشاطاً وعدائية في الشرق الأوسط بعد الاتفاق على خطة العمل الشاملة المشتركة، هم يتوقعون منها تحركات خطيرة اليوم إذا عادت الولايات المتحدة وإيران إلى الالتزام بالاتفاق، ولا تزال معظم دول المنطقة مقتنعة بأن إدارة أوباما تجاهلت الاعتداءات الإيرانية خوفاً من تهديد مسار تنفيذ الاتفاق.تشتق هذه النظرة الإقليمية إلى إيران من تجربة هؤلاء القادة مع الجمهورية الإسلامية، فبرأيهم، تتعلق المسألة الأساسية في هذا الملف باعتبار إيران بلداً أو قضية بحد ذاتها، وهذا ما قاله هنري كيسنجر في الماضي، وتبدو الحجة التي تبرر هذا الرأي قوية وراسخة: تستعمل إيران الثورية الخطاب الإسلامي الشيعي المعادي للاستعمار لتبرير الأجندة القومية التوسعية، وبعد وقتٍ قصير على حصول الثورة الإسلامية، اتضحت طبيعة إيران وحقيقة التهديدات التي تطرحها غداة إعدام آلاف معارضي النظام الحقيقيين والوهميين، ودعم الجماعات الإرهابية في أنحاء المنطقة، واستمرار التهديدات المطروحة على وجود إسرائيل، والحملة الهجومية المضادة في العراق خلال الثمانينيات، والهجوم على السفارة الأميركية في لبنان في عام 1983، وحرب الدبابات مع الولايات المتحدة.حين اتضحت جهود إيران لتطوير برنامج نووي بحلول عام 2005، اعتُبر هذا المسار في البداية أداة خطيرة أخرى من أدوات سياسة القوة التي تستعملها إيران، ونتيجةً لذلك، أعلنت إدارتا بوش وأوباما أن الولايات المتحدة ستستعمل القوة لمنع إيران من تطوير سلاح نووي، مع أن دولاً مثل جنوب إفريقيا وليبيا والهند وباكستان لم تواجه تهديدات مماثلة رغم تطويرها بعض القدرات النووية في مراحل مختلفة، واعتبر الغرب إيران دولة خطيرة، لذا تعامل معها كجهة عدائية بامتياز.كان مبرراً أن تشعر إدارة أوباما بالقلق من اندلاع صراع شامل بسبب شعور إسرائيل بتهديد وجودي أو إدراك الولايات المتحدة لمخاطر سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط عند الفشل في كبح برنامج إيران النووي عن طريق الدبلوماسية، وكان استعمال الدبلوماسية كوسيلة لتغيير التصرفات الإيرانية المسار المنطقي والضروري سياسياً لأسباب عدة. أوحى هذا المسار حتماً بأن إيران لم تعد قضية بحد ذاتها بل بلداً يمكن كبح طموحاته النووية أو حتى تهديداته الإقليمية عبر الدبلوماسية التقليدية المبنية على سياسة العقوبات أو المكافآت.اقتنع البعض في إدارة أوباما بأن خطة العمل الشاملة المشتركة قد تشير إلى "تغيير طبيعة الدبلوماسية داخل النظام": عند ملاحظة الاحترام والثقة من جانب الغرب، ستتقبّل طهران العالم المنفتح الذي صمّمته الولايات المتحدة.لكن من الواضح أن هذا الرهان كان خاسراً، واعتباراً من عام 2013، حين بدأت مفاوضات جدّية مع الحكومة الإيرانية، وصولاً إلى عام 2018، عندما انسحب ترامب من الاتفاق، لم تغيّر إيران سلوكها، بل سرّعت اعتداءاتها الإقليمية واستغلت الفوضى الناجمة عن الربيع العربي وتنامي قوة "داعش" لتوسيع نفوذها، فبنظر جهات كثيرة في المنطقة، كان الدرس المستخلص من هذه التجربة واضحاً: لا يمكن بناء أي نوع من الثقة مع إيران لأن هذا البلد يملك أجندة محددة للهيمنة على الشرق الأوسط.بغض النظر عن رأي الإسرائيليين والسعوديين والإماراتيين وسواهم بإدارة أوباما، من الواضح أن مقاربة بايدن تجاه إيران تختلف عن نهج أوباما، وتبرز مثلاً مؤشرات عدة على عدم استعداد فريق بايدن لالتزام الصمت في وجه أي تهديدات مباشرة أو غير مباشرة تطرحها إيران، منها تبادل الضربات الجوية على الحدود العراقية السورية رداً على الاعتداءات بالصواريخ والطائرات بلا طيار من جانب الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ضد القواعد العراقية التي تنتشر فيها القوات الأميركية، واعتراض المراكب الشراعية التي تحمل أسلحة إيرانية إلى اليمن، ودعم حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها ضد صواريخ "حماس" رغم الضغوط التي تعرضت لها الإدارة الأميركية، وفي الوقت نفسه، يعقد المسؤولون الأميركيون التزامات معينة في محادثاتهم الخاصة مع حلفائهم في المنطقة كي لا يسمحوا للملف النووي بتغيير التحركات التي تتقبلها الولايات المتحدة من إيران في الشرق الأوسط.بعد إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة في مرحلة معينة من هذه السنة، يتعلق أبرز تحدي بتنفيذ تلك التحركات الأولية وإثبات استعداد الإدارة الأميركية للتعاون مع شركائها، والتصدي لإيران التي توسّع تحركاتها بطريقة مباشرة أو تستعمل عملاءها لتهديد الآخرين، لكن كي تنجح المساعي الدبلوماسية، في الملف النووي أو في مسائل إقليمية أخرى، يجب أن تدرك طهران أن تلك الجهود تحمل ثقلاً كبيراً، وفي ظل غياب الضغوط، لن تتجدد أي نسخة من خطة العمل الشاملة المشتركة، ولردع تحركات إيران المشينة، يجب أن نثبت لقادتها أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً مقابل تجاوزاتهم.بما أن إسرائيل أصبحت الآن جزءاً محورياً من مسؤوليات القيادة المركزية الأميركية، إلى جانب بقية مناطق الشرق الأوسط، يُفترض أن تجمعها إدارة بايدن مع الشركاء العرب لطرح خيارات معينة وتنفيذ خطط طوارئ للتعامل مع تهديدات الميليشيات الشيعية، كذلك، يجب أن تُشجّع الإدارة الأميركية دول الخليج على تحسين دعمها للحكومة العراقية، واستعمال الموارد الجماعية لتكثيف الجهود الرامية إلى كبح قدرة إيران على تصدير الأسلحة إلى عملائها، ودعم الضربات الإسرائيلية المتواصلة ضد إيران التي تريد بناء بنيتها التحتية العسكرية وتطوير قدرات دقيقة التوجيه لصالح العمليات الصاروخية التي تطلقها سورية وحزب الله.في عهد ترامب، استعملت واشنطن وسائل مختلفة في دول الشرق الأوسط لكنها فرضت بشكل عام ضغوطاً عسكرية واقتصادية ودبلوماسية لإعاقة تقدّم إيران، وحصلت تحركاتها على دعم تحالف إقليمي عاد واندمج في نهاية المطاف في إطار اتفاقيات إبراهام، ومن المنطقي أن يزيد الاتكال على تلك الاتفاقيات للاستفادة من تواصل العرب مع إسرائيل وتشجيع الخطوات الإسرائيلية نحو عقد السلام مع الفلسطينيين، حيث يسمح هذا المسار أيضاً بتقوية التحالف ضد إيران.لتحقيق النجاح المنشود، يجب أن تتعاون إدارة بايدن مع شركائها العرب والإسرائيليين والأتراك لحل المشاكل الإيرانية الإقليمية وتتابع الضغط على طهران والحكومات التي تميل إلى الرضوخ لها، فهذه المقاربة لا تمنع بذل جهود دبلوماسية بل إنها قد تقوّيها، حتى أننا قد نزيد اهتمام إيران بإقامة حوار جدّي عند إيجاد المقاربة المناسبة للتعامل مع هذا الوضع.لتحسين فرص نجاح النقاشات الإقليمية مع طهران وتخفيف الاضطرابات القائمة وإضعاف الصراعات المحتملة ومنع تصعيد الوضع، يجب أن تنتج تلك النقاشات ردة فعل إقليمية كفيلة بإقناع إيران بتعديل سلوكها.
دوليات
المشكلة ليست في «الاتفاق النووي»... بل في إيران نفسها!
09-07-2021