حتى يوم 28 يونيو، بقيت عبارة "رئيس وزراء إسرائيل" مكتوبة على موقع بنيامين نتنياهو الرسمي، وبعد أكثر من أسبوعين على تنحيته من السلطة، لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يجد صعوبة في تقبّل خسارته والتكيف مع الواقع المتبدّل، يدعوه المشرّعون التابعون لحزب "الليكود" الذي ينتمي إليه "رئيس الوزراء" حتى الآن، وقد تلقت جميع أحزاب المعارضة بقيادة "الليكود" تعليمات واضحة بعدم الاعتراف بشرعية الحكومة الجديدة، وتجاهل التغيير الحاصل في النظام، واعتبار رئيس الوزراء الجديد نفتالي بينيت "مخادعاً" والحكومة التي يرأسها "أكبر عملية احتيال سياسية في تاريخ الدولة"، حيث يتصرف هذا المعسكر وكأنه ما زال يسيطر على الكنيست ويرفض تقبّل حُكم الناخبين واستلام الحكومة الجديدة للسلطة في 13 يونيو الماضي.يجد نتنياهو صعوبة في توديع السلطة والنفوذ والامتيازات التي كان يتمتع بها، فلا تزال عائلته تقيم في مقر رئيس الوزراء الرسمي في القدس، بعدما وافق بينيت على تأخير انتقاله إلى هناك لبضعة أسابيع، ويحاول نتنياهو الآن إجبار حزب "الليكود" على تغطية نفقاته الخاصة، كما كان يحصل خلال سنوات وجوده في الحُكم، فهو لا يملك بطاقة ائتمان بل لديه هاتف خليوي واحد، ولم يَقُد سيارة منذ وقت طويل ولا فكرة لديه حول الحياة اليومية التي يعيشها الإسرائيليون العاديون، كذلك، لا يجد نتنياهو سبباً كافياً للتكيف مع وضعه الجديد على ما يبدو، بل إنه يتجول في أنحاء البلد، ويمشي حافي القدمين على طول الشاطئ في مدينة بات يام ويلفت أنظار الناس ويلتقط صور سيلفي، ويستمتع بمحبة عدد كبير من مناصريه الذين يتابعون مناداته "رئيس الوزراء". باختصار، إنها أصعب مرحلة انتقالية في تاريخ إسرائيل.
يُعتبر تغيير الحكومات في الولايات المتحدة أسهل بكثير: يستقل الرئيس المروحية أو الطائرة الرئاسية التي توصله إلى الحياة المدنية، حيث يشغل نفسه ببناء المكتبة الرئاسية، لكن في إسرائيل أصبح رئيس الوزراء السابق الآن زعيم المعارضة في الكنيست ولا ينوي الذهاب إلى أي مكان، بل العكس صحيح، فهو يتمتع بطاقة فائقة، ويتصرف كشخص مهووس بالسلطة، ويتمسك ببقايا مجده الغابر، ويحاول تعزيز شعبيته ومكانته باعتباره زعيماً خرج من السلطة لفترة مؤقتة.بشكل عام، يصعب إسقاط الحكومات في إسرائيل، لكن ستسقط حكومة بينيت تلقائياً إذا فشلت في إقرار ميزانية الدولة خلال الأشهر المقبلة، وهي نتيجة مستبعدة ما لم تحصل تطورات استثنائية، وسيدرك نتنياهو ومناصروه وأعضاء الكنيست التابعون له في مرحلة معينة أنهم لن يعودوا إلى السلطة في أي وقت قريب، فبعد تمضية 12 سنة في الحُكم، لم يعد حزب "الليكود" معتاداً على البقاء خارج المعترك السياسي، بل إنه اعتاد على العمل والسلطة والامتيازات الفائقة، ولم يكن معظم أعضاء "الليكود" في الكنيست والأحزاب المتطرفة المتحالفة معهم جزءاً من معسكر المعارضة يوماً، إذ يقتصر الواقع السياسي الذي يعرفه هذا الفريق على التمويل الوافر، والنفوذ الفائق، وصناعة القرارات، ومن الواضح إذاً أن مرحلة شاقة تنتظره.يحاول نتنياهو أن ينشر الآمال حول احتمال انهيار حكومة الوحدة الغريبة والمعقدة التي يقودها بينيت ورئيس الوزراء البديل يائير لبيد في أسرع وقت، فهو يحارب على جميع الجبهات، وتبدو حظوظ نتنياهو معدومة لكنه لا يستسلم مطلقاً، بل يحاول إحداث شرخ بين بينيت وإدارة جو بايدن ولا يتردد في التصادم مع الحكومة حول جميع المواضيع، بما في ذلك المسائل الأمنية التي تهمّه كثيراً، فقد رفض نتنياهو مثلاً الموافقة على تمديد القرار المؤقت الذي يمنع لمّ شمل العائلات بين الفلسطينيين غير الإسرائيليين والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وكان الكنيست يُجدّد ذلك القرار سنوياً منذ إقراره للمرة الأولى في عهد حزب "الليكود" في عام 2003، تزامناً مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصلاحية القرار انتهت في 6 يوليو الجاري، وهو يهدف في الأساس إلى منع نزوح جماعي للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى إسرائيل وتسلل عناصر عدائية أو حتى إرهابية إليها.كان نتنياهو شخصياً قد قدّم طلب التجديد السنوي أمام الكنيست، قبل أيام قليلة من تنحيته، واليوم، يبذل هذا الأخير مع أعضاء حزب "الليكود" الآخرين قصارى جهدهم لمنع مصادقة الكنيست على القرار، كذلك يعارض حزب "راعم" الإسلامي هذا التدبير، علماً أنه أول حزب سياسي عربي ينضم إلى الحكومة الإسرائيلية، ومن دون دعمه، سيحتاج الائتلاف الحاكم إلى أصوات المعارضة للمصادقة على قرار التجديد.يخوض نتنياهو هذه اللعبة الدرامية الشائكة حتى النهاية، فهو ينتهك بذلك المبدأ المقدس الذي التزمت به أحزاب المعارضة الصهيونية على مر العقود لمنح الحكومة شبكة أمان في مسائل الأمن القومي، لكن يبدو أن نتنياهو يهتم اليوم بأمنه السياسي الشخصي أكثر من أمن إسرائيل القومي، فهو يسعى إلى تحقيق هدف واحد بكل بساطة: إحراج حكومة بينيت– لبيد، وإثبات خطورتها على إسرائيل ومعاداتها للصهيونية، وإضعاف أسسها وتأجيج الصدام بين مكوناتها المتنوعة. هذا هو هدفه الوحيد.اعتباراً من هذه المرحلة، بدأت المعارضة تطلق حملة مستهدفة ضد جميع التشريعات التي يقترحها الائتلاف الحاكم، وبما أن هذا الأخير يملك أغلبية ضئيلة في الكنيست (بفارق صوت واحد)، سيضطر أعضاؤه في الكنيست والحكومة لتمضية أيام وليالٍ طويلة في المجلس، حتى أنهم قد يمضون الليل بطوله هناك (كما حصل عشية 28 و29 يونيو) لتجنب خسارة الأصوات أمام المعارضة، وفي ظل هذا الوضع، لا بد من التساؤل: إلى متى سيتابع حزب "الليكود" وحلفاؤه هذه الحملة الجنونية من التحديات المتواصلة ضد الائتلاف الحاكم؟في المقابل، قرر بينيت ولبيد تقبّل انتقادات نتنياهو الضمنية للتأكيد على هدوئهما وتسليط الضوء على الفرق بين حكومتهما المسؤولة ونزعة نتنياهو إلى فقدان السيطرة على نفسه، فهما يثبتان بهذه الطريقة أنهما يتمتعان بصفات مثل الكرامة والثقة بالنفس، وحتى الآن، يصبّ الوضع في مصلحتهما، ويبدو نتنياهو من جهته مرتبكاً وتائهاً بدل أن يكون زعيماً وطنياً قوياً أخذ إجازة قصيرة من منصبه.يُعوّل نتنياهو على بصيص أمل متعلق بوزير الدفاع بيني غانتس، رئيس حزب "أزرق أبيض"، فمن المعروف أن غانتس ليس مسروراً بصفقة تقاسم السلطة بين بينيت ولبيد، حيث يملك حزب "يمينا" برئاسة بينيت ستة مقاعد في الكنيست فقط (من أصل 120)، في حين يملك حزب "أزرق أبيض" ثمانية مقاعد، لذا يتابع مبعوثو نتنياهو استكشاف الظروف لتقييم احتمال إقناع غانتس بتغيير تحالفاته والعودة إلى صفقة تقاسم السلطة التي عقدها مع نتنياهو في عام 2020، ولكن بموجب الاتفاق المقترح، سيتسلم غانتس هذه المرة رئاسة الحكومة خلال أول ثلاث سنوات ثم يتسلمها نتنياهو لسنة واحدة.لكن من المستبعد أن يصدّق غانتس أو أي مسؤول آخر نتنياهو الذي نكث بجميع وعوده السياسية السابقة وحرق جميع الجسور مع الآخرين، فخان شركاءه (منهم غانتس في مرحلة معينة)، وخدع كل من وثق به على مر السنين، ومع ذلك لا يكف نتنياهو عن محاولة الاستفادة من الوضع، إنه تصرف اعتيادي من جانبه.لا أحد يعرف إلى متى سيتابع مناصرو حزبه تقديم الدعم له، فحين كان نتنياهو ينفذ وعوده ويوصل حزب "الليكود" إلى السلطة في مناسبات متلاحقة، بقيت سلطته مضمونة، لكنه أبعد الحزب الآن عن العرش وأصبح عبئاً عليه، حيث نجح كبار أعضاء حزب "الليكود" في إعاقة خطته الرامية إلى إجراء انتخابات تمهيدية سريعة لترسيخ سطوته على رئاسة الحزب، فهم ينظمون صفوفهم من دون علمه، ونتيجةً لذلك، لم يعد نتنياهو يستطيع تلبية جميع نزواته عبر مؤسسات حزب "الليكود". لقد ظهرت تصدعات واضحة في حُكمه المطلق وتلاشى السحر الذي كان يتمتع به يوماً، وما لم يحصل تطور جذري وتضعف حكومة بينيت– لبيد، فإن مستقبل نتنياهو السياسي يبدو قاتماً أكثر من أي وقت مضى.
دوليات
مؤامرات نتنياهو تعود إلى الواجهة!
09-07-2021