أوروبا تتحول إلى قارة يمينية
بالنسبة إلى فئة معينة من الليبراليين الأميركيين، من الطبيعي أن يتمنى الجميع أن تصبح الولايات المتحدة مشابهة لأوروبا، ففي تلك القارة يستفيد الناس من الرعاية الصحية بطريقة متساوية، ويُعتبر التعليم الجامعي أقل كلفة بكثير، حتى أنه مجاني في حالات كثيرة، كذلك تكون الأعراف الجنسية أكثر تحرراً، ويبقى امتلاك الأسلحة نادراً والدين ظاهرة قديمة والقومية المتشددة جزءاً من المحرمات، وقد أكد الاستياء الأوروبي من عهد جورج بوش الابن ودونالد ترامب ما يعرفه الليبراليون الأميركيون أصلاً: كانت تلك القارة القديمة نموذجاً عن الأرض المستقبلية التي يحلم بها الأميركيون الليبراليون،لكن هل ستبقى هذه الآراء على حالها حين تصبح أوروبا أكثر دعماً لمعسكر اليمين من الولايات المتحدة؟قد تتغير نتائج استطلاعات الرأي في أي لحظة طبعاً، ولا يمكن أن يثبت استحقاق انتخابي واحد حصول تغيّر ثقافي جذري في أي بلد، لكن من الواضح أن المناخ السياسي العام في أوروبا بدأ يميل إلى معسكر اليمين منذ فترة.
في أوروبا اليوم، غالباً ما تكون الأحزاب التقليدية الأكثر قابلية للاستمرار أحزاباً يمينية بارزة سعت إلى التكيّف مع أبرز مسائل اليمين القومي، لا سيما حزب المحافظين الذي يقوده بوريس جونسون ونجح في التفوق على "حزب استقلال المملكة المتحدة" عبر دعم خطة "بريكست" التي تصبّ في مصلحته، أو الأحزاب التي ترتكز على الأوساط التكنوقراطية بهدف حشد أبرز الجهات المؤثرة ضد اليمين المتطرف، وفي المقابل، تلاشت قوة الأحزاب اليسارية الحقيقية، مثل حزب جان لوك ميلونشون في فرنسا أو حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين في بريطانيا، وفي غضون ذلك، يتابع اليمين المتطرف إطلاق ظواهر جديدة، آخرها إيريك زمور الذي تفوق على مارين لوبان في معسكر اليمين في فرنسا عبر طرح نفسه كشخصية قومية أكثر منها.إذا أنتجت هذه التطورات كلها اصطفافاً سياسياً أوروبياً جديداً يشمل اليمين المتطرف عبر إعادة إحياء النزعة المحافِظة التقليدية التي تنشغل بالمسائل الداخلية، فسيصبّ هذا الوضع في مصلحة أوروبا وحتى العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة في نهاية المطاف، إذ تستطيع واشنطن أن تتعايش وتتعاون وتقيم علاقات تجارية مع أوروبا التي تزداد تركيزاً على التضامن الوطني أكثر من المبادرات الإنسانية العالمية أو الهجرة المفتوحة أو الأسواق الحرة، وإذا نجحت هذه القارة في توسيع نطاق الاستقرار السياسي والمساءلة الديمقراطية بهذه الطريقة، فقد يعتبرها معظم المراقبين خياراً أفضل بكثير من التقرب من اليمين المتطرف أو الغرق في حرب أهلية. لكن قد يشعر اليساريون الأميركيون بالصدمة حين يسمعون سياسيين أوروبيين وسطيين من أمثال إيمانويل ماكرون وهم يلومونهم على إضعاف التضامن الوطني بسبب نزعتهم اليسارية "المعاصرة"، لكنهم قد يضطرون للاعتياد على هذا الوضع، ولتعزيز الوحدة الوطنية لا شيء أفضل من التهديدات الخارجية، وبما أن أوساط السياسة الخارجية الأميركية تفضّل على الأرجح أن تبقى الصين مصدراً لتلك التهديدات، من المنطقي أن ترفض أوروبا التي تزداد تركيزاً على شؤونها الداخلية التأثير الأميركي الخبيث على نسيجها الاجتماعي أكثر مما تستنكر تهديدات الصين لتايوان أو قمعها لشعب الإيغور.تتعلق المسألة الأساسية إذاً بمعرفة مدى استعداد الولايات المتحدة لاستخلاص درس قيّم من انهيار شركائها الأوروبيين وإعادة النظر بطريقة تعاملها مع السياسة قبل أن تواجه انهياراً مماثلاً وتضطر للتخلي عن القضايا الثقافية مقابل التركيز على المسائل المعيشية، وكخيار بديل هل ستُلهِم نزعة أوروبا إلى دعم معسكر اليمين اليسار الأميركي وتدفعه إلى التفاؤل مجدداً بابتعاد الولايات المتحدة عن النزعة القومية التي كانت سائدة في العالم القديم، فيعيد البلد رسم رؤيته الخاصة لمستقبل مبني على المساواة الثقافية، شرط ألا تكون هذه المقاربة بمثابة تعويض حتمي عن تاريخ البلد المليء بالأخطاء بل طريقة إيجابية لتحقيق الوعد الأميركي المميز؟* نواه ميلمان