حين اشتبكت إسرائيل مع حركة "حماس" في غزة في شهر مايو الماضي، حققت قوات الدفاع الإسرائيلية فوزاً حاسماً، لكن "حماس"، تلك الجماعة الإسلامية الفلسطينية المتشددة التي تحكم قطاع غزة، نجحت في فرض نفسها عبر شنّ اعتداءات بطائرات بلا طيار إلى جانب مئات الصواريخ التي أطلقتها، وتساءل الجميع عن مصدر تلك الطائرات الجديدة التي تشبه طائرات "أبابيل 2" الإيرانية، ربما تقاتل إسرائيل حركة "حماس" لكنها تدرك جيداً أن مصدر التهديد الأساسي يكمن في طهران.

لكن شعر الإيرانيون أنفسهم بالخوف على سلامتهم خلال الشهر السابق، ففي 11 أبريل 2021، استهدف انقطاع للتيار الكهربائي، نتيجة مخطط تفجير متعمد، منشأة "نطنز" الإيرانية النووية، حيث تشمل تلك المنشأة المكوّن الأساسي في برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، وهو العنصر الأولي الذي يسمح للبلد باكتساب قدرات نووية، واعتبر المسؤولون الإيرانيون تلك العملية شكلاً من التخريب وحمّلوا إسرائيل مسؤولية ما حصل وتعهدوا بأخذ انتقامهم، وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده: "أنها جريمة ضد الإنسانية وتتماشى هذه التحركات مع جوهر النظام الصهيوني".

Ad

يُعتبر عامل التوقيت أساسياً في التفجيرات والجهود الدبلوماسية معاً، فوقع الانفجار تزامناً مع اجتماع إيران والقوى الأوروبية في فيينا لمحاولة إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة، أي الاتفاق النووي الذي وقّعت عليه إيران والقوى الخمس في مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا في عام 2015، وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد انسحب منه بشكلٍ أحادي الجانب في عام 2018، حيث أراد الإسرائيليون بذلك أن يوجهوا رسالة واضحة: يمكنكم أن تجروا المحادثات لكن احرصوا على عقد اتفاق نقبل به!

في السنة الماضية، قُتِل محسن فخري زاده في شارع مزدحم من مدينة "أبسارد" بالقرب من طهران في 27 نوفمبر، وهو واحد من كبار الشخصيات في برنامج إيران النووي، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن تلك العملية، لكن الكثيرين اقتنعوا بمسؤولية إسرائيل التي لم تقدم أي تصريح رسمي حول الحادثة لكنها لم تبذل جهوداً كبرى لتبديد هذه الفرضية، وأمام هذا الوضع، انتشرت المخاوف مجدداً، حيث بدأت إسرائيل تقتل العلماء النوويين الإيرانيين منذ أكثر من عشر سنوات، لكنها لم تستهدف يوماً شخصية بارزة بقدر فخري زاده، وتتجه الأحداث إلى التفاقم بكل وضوح.

تصنيع قنبلة نووية

تُعتبر هذه التطورات أحدث فصل من ملحمة طويلة امتدت على القرن كله تقريباً، ولو بوتيرة متقطعة، فقد بدأت الأزمة النووية في 14 أغسطس 2002، حين كشفت جماعة المعارضة الإيرانية المعروفة باسم "مجاهدي الشعب الإيراني" تفاصيل كاملة عن موقع "نطنز" الخاص بتخصيب اليورانيوم وعن بناء محطة الماء الثقيل في مدينة "أراك"، ومن المتوقع أن تتمكن هذه المحطة من إنتاج البلوتونيوم بعد تشغيلها. يُمهّد هذان المساران لتصنيع قنبلة نووية محتملة، فقد أدان العالم الدبلوماسي إيران ثم بدأت المفاوضات، وحصدت جماعة "مجاهدي الشعب الإيراني" الإشادة علناً بعد الكشف عن هذه المعلومات، لكن مصادر أمنية خاصة تذكر أن تلك التفاصيل صدرت عن إسرائيل.

كانت المفاوضات الرامية إلى الحد من النشاطات النووية الإيرانية مقابل تخفيف العقوبات شاقة ومتقطعة ودامت حتى عام 2015، حين أشرف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على إبرام خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة على نطاق واسع باسم الاتفاق النووي الإيراني، واعتبر أوباما ذلك الاتفاق ركيزة لسياسته الخارجية وحمل نائبه جو بايدن الرأي نفسه حينها، حيث فرضت خطة العمل الشاملة المشتركة ضوابط على إنتاج البلوتونيوم ونشاطات تخصيب اليورانيوم في إيران وسهّلت وصول المفتشين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى المنشآت الإيرانية، وفي المقابل، تلقّت إيران أكثر من 100 مليار دولار على شكل أصول مجمّدة في الخارج وتمكنت من استئناف بيع النفط في الأسواق الدولية واستعمال النظام المالي العالمي للتجارة.

لكن شعرت إسرائيل من جهتها بالاستياء، ولم يربط أوباما بين ذلك الاتفاق وسلوك إيران الإقليمي، واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حينها أن إيران ستكسب الآن مليارات الدولارات لمتابعة عملياتها الهجومية في العراق وسورية واليمن، كذلك، تعلّق أحد البنود برفع الضوابط المفروضة على قدرات تخصيب اليورانيوم في إيران بعد عشر سنوات (أي في عام 2025) وإلغاء الضوابط المرتبطة بتخصيب اليورانيوم بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ، أي في عام 2030. نظرياً، تستطيع إيران بعد تلك المرحلة أن تعمل على تصنيع قنبلة.

شعر نتنياهو بالاستياء بعد التوقيع على ذلك الاتفاق، فاعتبر ما حصل نوعاً من "الاستسلام"، لكنه لم يكن الطرف الوحيد المقتنع بهذا الرأي، ففي نيويورك، لم يحبذ قطب العقارات ونجم برنامج الواقع دونالد ترامب ما حصل أيضاً، فكتب التغريدة التالية: "سيصبح الاتفاق النووي من أغبى الأخطاء وأكثرها خطورة في تاريخ بلدنا... يا له من زعيم غير كفء"!

بعد مرور سنة، انتُخِب ترامب رئيساً للولايات المتحدة ثم انسحب من الاتفاق في عام 2018، وردّت إيران على ما حصل عبر استئناف تخصيب اليورانيوم، مع أن مصادر محددة اعتبرت ذلك القرار قابلاً للتعديل، ومنذ ذلك الحين، حاول الأوروبيون الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة، لكن هذه الخطوة تبقى بلا جدوى من دون المشاركة الأميركية، وعلى غرار ما يحصل مع أي جرح مزمن، تحوّل هذا المأزق الدبلوماسي إلى وضع أكثر خطورة.

اليوم، يريد جو بايدن أن يعالج هذه المسائل، وتخشى إسرائيل أن يعود الرئيس الأميركي إلى الاتفاق بكل بساطة بما أنه من أقوى داعميه، فقد عبّر تساحي هنغبي، وزير شؤون الاستيطان، ووزير الاستخبارات والشؤون النووية والمشرف على وكالات الاستخبارات الإسرائيلية مثل الموساد والشاباك سابقاً، عن آرائه حول الأزمة الإيرانية بكل وضوح في حديث جديد معه، وهو معروف بقربه من نتنياهو. قال هنغبي: "ما زلتُ أتمنى أن تعترف الإدارة الأميركية الجديدة بأهمية عقد اتفاق أطول وأكثر قوة، ولا أستطيع التأكيد على اتخاذها هذه الخطوة، لكني أتمنى حصول ذلك".

ثم تابع: "لا تضمن خطة العمل الشاملة المشتركة امتناع إيران عن اكتساب قدرات نووية إلى الأبد، بل إنها تعطي شكلاً من الشرعية إلى برنامج تخصيب اليورانيوم، مما يقوي المحاولات الإيرانية للحصول على قدرات عسكرية".

يُصرّ الإسرائيليون والإيرانيون معاً على موقفهم، حتى الآن على الأقل، ومقابل كل تحرك إسرائيلي مزعوم، ردّت إيران على المستوى الرسمي عبر استئناف نشاطاتها النووية، وفي يناير 2021، استأنفت إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% رداً على مقتل فخري زاده، وبعد تفجير "نطنز"، أعلنت تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء تبلغ 60%، وهي خطوة واضحة باتجاه تصنيع الأسلحة، لكن يمكن تعديل هذين القرارَين بناءً على اتفاق مناسب، إذ لم يمنح البرنامج النووي منافع ملموسة كثيرة لإيران في قطاع الطاقة، لكنّ المنافع السياسية التي حصدتها الحكومة الإيرانية بفضله جعلتها قادرة على فرض مطالبها.

لن تستسلم إيران ولا إسرائيل في هذه المواجهة، وفي حين تتبادل حكومتا البلدين الهجوم علناً، يتعقب كل فريق الطرف الآخر في البحار: تهاجم إسرائيل الناقلات الإيرانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتردّ عليها إيران عبر ضرب سفن الحاويات الإسرائيلية، لكنّ الاعتداءات الحاصلة داخل إيران هي التي تثير اضطراب الإيرانيين في المقام الأول. في الوقت نفسه، حصل تفجير "نطنز" على الأرجح بمساعدة أطراف داخلية، ونتيجةً لذلك، اختلّ توازن الإيرانييين وهم يهاجمون الخونة والمخرّبين في البرلمان الإيراني.

إبراهيم رئيسي وإثبات النفس

اليوم، تجازف السياسات الداخلية في البلدَين بتأجيج الوضع بدرجة إضافية، ففي الشهر الماضي، انتُخِب إبراهيم رئيسي رئيساً جديداً لإيران، وقد يكون هذا الأخير المسؤول الأكثر تشدداً في أي منصب رسمي، وقد تعهّد بعدم عقد أي تسوية حول برنامج إيران النووي، فلا يتمتع رئيسي بشعبية واسعة في إيران (تكثر الادعاءات التي تتّهم النظام بالتدخل في الانتخابات لضمان فوزه) أو في المنطقة، ونتيجةً لذلك سيضطر الرئيس الإيراني الجديد لإثبات نفسه على مستويات عدة، وفي غضون ذلك، خرج نتنياهو من السلطة في إسرائيل أخيراً بعد 12 سنة على وجوده في الحُكم، وبعد تعداد إنجازاته طوال نصف ساعة، استعمل خطابه الأخير في الكنيست ليقول إن خَلَفه، أي رئيس الوزراء نفتالي بينيت، سيعجز عن التصدي لإيران، ويجب أن يثبت بينيت قدراته الآن أيضاً.

باختصار، لا تنذر التطورات الأخيرة بأي وضع إيجابي، لذا يتساءل الكثيرون عما سيحصل في المرحلة المقبلة، ويدرك الإيرانيون أن الإسرائيليين استهدفوا منشآت نووية في السابق: في عام 1981، قصفت إسرائيل المفاعل العراقي في "أوزيراك"، ثم استهدفت مفاعلاً نووياً في سورية في عام 2018. وتعرف إيران أن النظام سيضطر للتحرك إذا ضربت إسرائيل منشآته بدل الاكتفاء باستنكار ما يحصل، وقد يضطر النظام لشن ضربة مضادة، مما يعني اندلاع الحرب بين الطرفين، وقد ذكرت إحدى الرسائل في أبريل الماضي: "أنا أكره الملالي، لكني لا أريد أن أتعرض للقصف أيضاً".

تتحرك إسرائيل من جهتها انطلاقاً من مخاوفها الخاصة، فهي تخشى أن يوشك نظام ديني ومعادٍ للسامية على اكتساب أقوى سلاح على الإطلاق، ولن تسمح بحصول ذلك لأي سبب، وفي هذا السياق، يقول هنغبي: "إذا أعطى العالم الشرعية لأي اتفاق غير مناسب، فلن نكون ملزمين باحترامه".

وحين سُئِل عن معنى هذا التصريح، أضاف: "دعوني أوضح ما أعنيه. إذا بقيت إسرائيل وحدها لأن العالم أعطى الشرعية لإيران النووية، فلن نلتزم بهذا التوجه، بل إننا سنبذل قصارى جهدنا للدفاع عن أنفسنا، كما فعلنا سابقاً في سورية والعراق".

ديفيد باتريكاراكوس