لم ينتهِ الصراع الذي هدّد بتدمير إثيوبيا غداة الهزيمة الأخيرة لقوات الحكومة الإثيوبية على يد المتمردين في "تيغراي"، بل نشأت سلسلة من السيناريوهات الكارثية حول مصير إثيوبيا في المرحلة المقبلة، حيث ستتوقف مسائل كثيرة على إمكانية التفاوض حول وقف إطلاق النار وسهولة وصول الأغذية إلى مئات آلاف الناس الذين وقعوا ضحية المجاعة.

لكن سيتوقف الوضع أيضاً على تداعيات نتيجة الحرب في "تيغراي" وانعكاسها على سياسة البلد عموماً لأن إقليم "تيغراي" المحاصر ينذر دوماً بمصير إثيوبيا كلها، ولفهم السبب لا بد من استكشاف إثيوبيا كمفهوم جغرافي وثقافي وسياسي بجميع خصائصه الفريدة من نوعها.

Ad

لا يمكن تعريف إثيوبيا بكلمات بسيطة، فهي خليط من ثقافة الشرق الأوسط والحضارة السامية وتقع في القارة الإفريقية، وكانت تتدخل تاريخياً في شؤون اليمن والمملكة العربية السعودية وفي شؤون الدول الإفريقية المجاورة لها، وقد تأثرت باللغات القريبة من العبرية والعربية في مرتفعاتها الشمالية، حيث تحمل الديانة المسيحية التوحيدية الشائعة في إثيوبيا بقايا من شعائر السكان الأصليين والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في آن، وتُعتبر الأرثوذكسية الإثيوبية ثاني أقدم كنيسة مسيحية رسمية في العالم بعد الكنيسة الأرمنية، مع أنها ترتبط أيضاً بالديانة اليهودية.

إثيوبيا ليست مجرّد دولة، هي لا تشبه الكيان الجغرافي المبهم الذي نشأ مثلاً في ليبيا أو العراق حيث كانت هويات الناس تتوقف على الانتماء إلى الإمبراطورية الإيطالية أو العثمانية، إذ لم تشمل إثيوبيا يوماً أي مظاهر اصطناعية ولطالما كانت إمبراطورية على طريقتها الخاصة وبقيت كذلك رسمياً حتى إسقاط الإمبراطور هيلا سيلاسي في عام 1974، واعتُبرت كذلك في الأوساط غير الرسمية أيضاً وشملت نحو 80 مجموعة عرقية.

ونظراً إلى وفرة الجنسيات المتنوعة وغير المنضبطة في البلد، يمكن مقارنة سياسة إثيوبيا وتاريخها بيوغوسلافيا وروسيا، فلم تنشأ أي مقارنات مع أماكن أخرى من إفريقيا يوماً، وباستثناء احتلالٍ اقتصر على سنوات قليلة من جانب إيطاليا في عهد موسوليني، لم يستعمر الأوروبيون إثيوبيا بطريقة رسمية يوماً، مما يعني أن هذه الدولة لا تمرّ بحقبة ما بعد الاستعمار.

في زيارة جديدة إلى أديس أبابا، سمعتُ في مناسبات متكررة أن الوضع الراهن يشبه ظروف روسيا في أواخر عهد القياصرة، مروراً بالثورة البلشفية وصولاً إلى الزمن الحاضر، فوفق هذا النموذج، كان غزو ملك "شيوا"، منليك الثاني، لإثيوبيا في أواخر القرن التاسع عشر ثم توسّع الأراضي المَلَكية في أجزاء كبيرة من القرن الإفريقي يشبه غزوات القيصر لأجزاء بعيدة من القوقاز المتنوعة عرقياً وآسيا الوسطى، وكان إسقاط ومقتل آخر إمبراطور إثيوبي، هيلا سيلاسي، على يد القائد العسكري الماركسي منغستو هيلا مريام مشابهاً لإسقاط ومقتل العائلة الملكية الروسية على يد البلاشفة، كذلك كانت المجاعة في منتصف الثمانينيات، نتيجة سياسات منغستو أكثر من الجفاف، تشبه المجاعة التي أحدثها ستالين في أوكرانيا.

بعد عهد منغستو وميلس زيناوي القويَين، كان عهد هايلي مريام ديسالين كزعيم لإثيوبيا بين العامين 2012 و2018 قصيراً وضعيفاً وفوضوياً، على غرار عهد بوريس يلتسين في روسيا، أما آبي أحمد الذي كان المسؤول المفضّل لدى الغرب سابقاً، فقد أرجع الحكم القوي إلى البلد بعد فرض سيطرته على دولة شبه إمبريالية مبهرة، فكان يستعمل المعلومات وحملات التضليل تزامناً مع اللجوء إلى الأجهزة الأمنية لفرض سيطرته في الحقبة المعاصرة. قد تكون مقارنته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبالغاً فيها، رغم فداحة انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالحرب في "تيغراي"، لكن شملت أولى سنوات آبي عناصر من سياسة غلاسنوست (الانفتاح والشفافية في المؤسسات الحكومية) والبيريسترويكا (إعادة الهيكلة) التي طبّقها الزعيم الروسي ميخائيل غورباتشوف.

ثم شهدت إثيوبيا نمواً اقتصادياً كبيراً على مر العقد الماضي، فاقتربت من معدل يفوق العشرة في المئة سنوياً في بعض الحالات وتفوقت بذلك على بقية دول إفريقيا. عاش الشعب كله اضطراباً كبيراً تزامناً مع نشوء ثورة صامتة وارتفاع سقف التوقعات، ويمكن اعتبار هذه العوامل خلفية للصراع الراهن، ولو كان النمو الاقتصادي يؤدي إلى السلام والاستقرار بكل بساطة، لما كانت الحرب العالمية الأولى التي تزامنت مع ذروة العصر الصناعي في أوروبا ستحصل يوماً.

في ما يخص معنى الحرب في "تيغراي"، لا يقتصر الوضع على صراع عسكري في إقليم شمالي، بل تهدف الحرب القائمة إلى السيطرة على المركز السياسي في أديس أبابا، فمن سيحكم إثيوبيا إذاً: سكان "تيغراي" في الشمال، أم جماعة "أمهرة" التي فرضت سيطرتها تاريخياً، أم جماعة "أوروموس" القوية ديمغرافياً (معظمهم من المسلمين في هذا البلد المسيحي الأرثوذكسي)؟ أول مشكلة تحتاج إلى الحل في إثيوبيا تتعلق بالعلاقات بين مختلف الانتماءات العرقية، علماً أن إجراء الانتخابات هو مجرّد تفصيل ثانوي. تكشف هذه المشكلة جوهر الأزمة الحقيقية التي تتعلق بهوية إثيوبيا؛ هل هي إمبراطورية، أم فدرالية فضفاضة ومتعددة الجنسيات، أم دولة تسيطر عليها سلطة مركزية؟

لا يمكن فصل هذا السؤال عن هوية رئيس الوزراء المتخبّط راهناً، آبي أحمد، فهو ينتمي إلى جماعة "أورومو" العرقية ويحمل اسماً مسلماً، لكنه جزء من الكنيسة الخمسينية أيضاً، وأصبح هذا الانتماء شائعاً جداً في بلدٍ تنتشر فيه حملات التبشير البروتستانتية على أوسع نطاق، ويظن البعض في أديس أبابا أن آبي مسيحي مثالي في الأصل، مما يعني أنه مقتنع بأن الله اختاره لإنقاذ إثيوبيا، وعلى غرار الليبراليين المؤيدين لسياسة التعاون الدولية في الغرب، هو يؤمن بالمبادرات الإنسانية، ونتيجةً لذلك، قد يستخف بالعوامل الجغرافية والثقافية والجيوسياسية وجميع القوى المصيرية الأخرى، وفي هذا السياق يُعتبر آبي انعكاساً لعدد كبير من النُخَب العالمية، مما يعني أنه مُلزَم بتقدير طبيعة الحروب والصراعات المستعصية، وأنها السبب وراء فشله في "تيغراي". آبي هو نتاج عصره، كما كان منغستو نتاجاً لعصره، ومثلما أسهمت العقلية الدولية السائدة في "دافوس" في صعود آبي، يظن بعض الإثيوبيين أن الحرب الباردة هي التي أنتجت منغستو، ذلك الحاكم المستبد المدعوم من الكتلة الشرقية.

كان آبي يظن أنه يستطيع هزم عصابات "تيغراي" خلال أسابيع معدودة، كما توقّع في نوفمبر الماضي، وكان يعتبر "تيغراي" عائقاً أمام أجندته المركزية، حيث رفض آبي البنية الفدرالية الفضفاضة التي تتألف من جنسيات مختلفة في إثيوبيا، بما يتماشى مع مبدأ التنوع والتقاليد الإمبريالية، وحاول في المقابل فرض دولة مركزية وقادرة على التحول إلى ديمقراطية حقيقية، واستعداداً لصراعه مع إقليم "تيغراي"، تحالف آبي مع زعيم إرتيريا، أسياس أفورقي، وكان اتفاقه مع أسياس السبب في نيله جائزة نوبل للسلام في عام 2019 وقد وُضِع ذلك الاتفاق في خانة ميثاق الحرب، وكان معظم الناس في إثيوبيا مقتنعين بهذا التصنيف في تلك الفترة نظراً إلى شخصية أسياس السياسية وسمعته.

أجريتُ مقابلتان مع أسياس: واحدة في عام 1986 في أحد كهوف "شيب" بالقرب من الخطوط الأمامية خلال حرب العصابات ضد منغستو، والثانية في عام 2002 داخل مكتبه الرئاسي في "أسمرة" بعد عشر سنوات على نيل إرتيريا استقلالها، وبقي أسياس مقاتلاً في العصابات دوماً ولطالما كان مهووساً بالصراعات والهيمنة ولم يتحول يوماً إلى رجل دولة مثل خصمه ميليس زيناوي في "تيغراي"، ووفق الأفكار الشائعة في أديس بابا، كان أسياس، زعيم دولة الأمن العسكري الصغيرة، الشخصية الطاغية في تحالفه مع آبي. لقد أصبح أسياس أشبه بلعنة حقيقية، فهو العدو الأرتيري الذي جلبه آبي إلى الصراع في "تيغراي" وارتكبت قواته على الأرجح جرائم حرب كثيرة هناك وسرعان ما جمع متمردي "تيغراي" ضده.

بعد هزيمة قوات حكومة آبي في "تيغراي"، لم ينتهِ القتال بأي شكل، فقد تنتقل الحرب الآن من شمال البلد إلى غربه وشماله الغربي في حين تسيطر ميليشيات "أمهرة" على متمردي "تيغراي" أنفسهم، فهل سيبدأ "حزب الازدهار" الذي يقوده آبي ولا يحمل ثقلاً تاريخياً كبيراً بالتفكك نتيجة هذه الانتكاسة الفادحة في ساحة المعركة؟ وهل سيقبل أسياس الهزيمة بعدما نشر القوات الإرتيرية في أنحاء "تيغراي"؟ وللحفاظ على درجة من السيطرة في الشمال، هل سيضطر آبي لسحب القوات النظامية من معركتها ضد حركة التمرد التابعة لجماعة "أورومو" في الجنوب وإعفائها من حراسة الحدود الغربية ضد عمليات التوغل السودانية؟ إنه جزء من الأسئلة المتداولة في أنحاء عاصمة إثيوبيا.

لم تكن الانطباعات التي كوّنتُها عن العاصمة الإثيوبية بعد غيابي عنها طوال 36 سنة سلبية، فعند النظر إلى إثيوبيا انطلاقاً من قصر منليك العظيم، أو من المؤسسات التي تبقي أديس أبابا مدينة ناشطة وبعيدة عن الفوضى السائدة في أجزاء أخرى من إفريقيا، أو عند النظر إليها بعيون الشتات الإثيوبي الذي ينتشر في أنحاء الغرب ويضخ الأموال في عقارات أديس أبابا، يبدو البلد أقوى من أن ينهار بكل بساطة.

*روبرت كابلان

روبرت كابلان