تكلم جو بايدن في خطابٍ سابق له في شهر فبراير الماضي عن عالمٍ منقسم بين الديموقراطية والاستبداد، فقال: "نحن نقف على مفترق طرق بين معسكر مقتنع بأن الاستبداد هو أفضل مسار مرتقب نظراً إلى التحديات المطروحة، ومعسكر يعتبر الديموقراطية أساسية لتجاوز تلك التحديات"، أصرّ بايدن على أن أجندته المحلية والخارجية تضع الولايات المتحدة في أفضل مكانة ممكنة للفوز بهذا الصراع التاريخي.

لكن تتسم سياسة بايدن الخارجية بتخبّط غريب، فبدل تطبيق استراتيجية عالمية لتجديد الثقة بالمصلحة العامة، يُركّز بايدن على هزم الصين، وكأن الناس خارج الولايات المتحدة لا يقدّرون قيمة الديموقراطية لأنها تقوّيهم بل لأنها مرادفة للقوة الأميركية، ويدعو بايدن الأميركيين إلى تطوير منتجات وتكنولوجيا المستقبل والسيطرة عليها خدمةً للديموقراطية، فقد تساعد هذه الخطوة الأميركيين وسكان الديموقراطيات الغنية والمتقدمة تكنولوجياً والمستثمرين الأميركيين، لكنها ليست رؤية مفيدة للاقتصاد العالمي، حيث تستطيع جميع الديمقراطيات أن تخدم شعوبها بالشكل المناسب.

Ad

قد يبدو الادعاء القائل إن الولايات المتحدة هي على خلاف مع معظم الديموقراطيات الأخرى صادماً، لكنه ينجم عن ميل القادة الأميركيين ووسائل الإعلام إلى الخلط بين "ديمقراطيات العالم" ومجموعة صغيرة من الدول الغنية، بما في ذلك القوى الاستعمارية في أوروبا (واليابان) والدول التي نشأت على شكل مستعمرات للمستوطنين، مثل أستراليا وكندا. طرحت مقالة في مجلة "نيويورك تايمز" في عام 2020 مثلاً نتائج استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث عبر العنوان التالي: "انعدام الثقة بالصين يبلغ مستويات قياسية جديدة في الدول الديموقراطية"، لكن لم يكن ذلك الاستطلاع يتمحور فعلياً حول "الدول الديموقراطية"، فهو لم يشمل أكبر ديموقراطيات العالم، أي بلدان مثل البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا، ولا ديموقراطيات أصغر حجماً مثل بوتسوانا وبابوا غينيا الجديدة وسريلانكا، بل شمل ذلك الاستطلاع سكان "الاقتصادات المتقدمة" كما ذكر مركز "بيو" بنفسه.

وفق مؤشر الديموقراطية في وحدة الاستخبارات الاقتصادية، تشمل الدول النامية الديموقراطية ضعف العدد السكاني الموجود في الديمقراطيات الغنية، لكن تبقى معظم الديموقراطيات الفقيرة في العالم هامشية بالنسبة إلى الرؤية العالمية التي يحملها صانعو السياسة الأميركية، بحيث لا تصبح هذه البلدان جزءاً من نقاشات العاصمة واشنطن إلا إذا باتت تُهدد الاستقرار الإقليمي أو أصبحت مفيدة في الصراعات الجيوسياسية الواسعة.

سياسة خارجية للجميع

تتعدد العوائق القائمة بين صانعي السياسة الأميركية وأي أجندة مُعدّلة لدعم الديموقراطية، ففي المقام الأول، بات النمو الاقتصادي الأميركي يتكل بشدة على أرباح الشركات المُركّزة في مجالات التكنولوجيا، والأدوية، والترفيه، والعلامات التجارية الاستهلاكية، والقطاعات المالية. إنها الشركات نفسها التي تشكّل أكبر العوائق أمام رفع معايير العمل العالمية وتحرير قوانين الملكية الفكرية، فتتجه الاستثمارات في الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم نحو الفرص المرتبطة بالاقتصاد الريعي بدل خلق فرص عمل وإنشاء البنى التحتية ورفع مستوى الإنتاجية.

تحمل هذه المشكلة طابعاً فلسفياً أيضاً، فهل يقتصر دور الديموقراطية على توفير إطار عمل حيادي يسمح للأفراد بتبادل السلع والأفكار بكل حرية عبر تقليص التهديدات المطروحة على الحرية والملكية، أي تقديم مصالح عامة "سلبية"؟ أم يُفترض أن تضمن الديموقراطية أيضاً تأمين مصالح عامة "إيجابية" مثل الرعاية الصحية، والتعليم، ووظائف عالية الجودة، واستثمار الرساميل؟ اتخذت السياسة الخارجية الأميركية خطوات ناشطة خدمةً للمصالح العامة السلبية وتخلّت عن المصالح الإيجابية، ويحذر المسؤولون والخبراء الأميركيون في المعسكرين الديموقراطي والجمهوري من مخاطر تدخّل الدولة في الاقتصاد. ركزت واشنطن على تحرير الأسواق، والحقوق الفردية، وحُكم القانون، والدفاع عن أمن الممتلكات وحرية الملاحة في وجه مجموعة من الأشرار: إنهم المجرمون العابرون للأوطان، و"الدول المارقة"، والإرهابيون، وأخيراً الصين.

لكن تخسر المصالح العامة السلبية فاعليتها وشرعيتها حين تنفصل عن المصالح الإيجابية، فغالباً ما تفشل جهود الإغاثة الأميركية لهذا السبب تحديداً. لنفكر مثلاً بالبرنامج الذي موّلته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في غواتيمالا بقيمة 31 مليون دولار في السنوات الأخيرة لابتكار تطبيق على الهواتف الذكية والسماح للسكان بتعقب نفقات الحكومة المحلية. لم يستطع السكان الفقراء الذين يركزون على فرص العمل أكثر من الحُكم الرشيد أن يتحملوا كلفة اقتناء هواتف ذكية أصلاً.

على مستوى السياسة المحلية، تعترف إدارة بايدن بأهمية التخلي عن النظريات التقليدية حول السوق الحر، لكن ما طبيعة السياسة الخارجية التي تتبنى هذه الرؤية؟ في المقام الأول، ستُركّز هذه السياسة على تأمين المصالح العامة الإيجابية على مستوى العالم، وسيحتاج كل بلد إلى تجديد الاستثمارات العامة على طريقته الخاصة، لكن يُفترض أن ترتكز هذه العملية على برامج عابرة للأوطان لتأمين خدمات الصحة العامة وردم الفجوة الهائلة في البنى التحتية بين الدول الغنية والفقيرة، وإطلاق عملية انتقالية عادلة بعيداً عن مصادر الطاقة كثيفة الكربون، وبدل القيام بأعمال خيرية أحادية الاتجاه، يُفترض أن تتلقى المبادرات العالمية الرامية إلى حل المشاكل التي تُهدد الجميع مساهمات من مختلف الدول بما يتماشى مع قدراتها.

لا تزال مكانة الولايات المتحدة تسمح لها بقيادة هذه الجهود، وتثبت مؤشرات معينة أن إدارة بايدن قد تفكر بأداء هذا الدور، وتدعم "مبادرة إعادة بناء عالم أفضل" التي أطلقها بايدن مثلاً تطوير بنية تحتية عالمية مع أن معالمها لم تتحدد بعد، لكنّ انشغال واشنطن بالمنافسة القائمة بين القوى العظمى يجازف باستبعاد المساهمات الصينية الأساسية في المشروع، وقد بدأ مؤيدو استعمال القوة منذ الآن يستخدمون المهارات والموارد الأميركية الهائلة لأغراض عسكرية بدل معالجة التهديدات الحقيقية التي تواجهها البشرية، وتكمن المفارقة في توسّع الحجج التي تبرر تمسّك بكين بالنزعة الاستبدادية (أي زيادة مظاهر المعاناة وانعدام الأمان بسبب الأمراض الوبائية، وتدهور المناخ، واللامساواة التي تزعزع الاستقرار) إذا منعت المشاعر المعادية للصين في واشنطن اتخاذ أي تدابير فاعلة ضد تلك المخاطر الوجودية.

ارتفاع مستوى العنصرية

تتعلق مصلحة عامة مهمة أخرى بنظام واجب النفاذ في مجال حقوق العمل العالمية لإضعاف المنافسة اليائسة التي بدأت تحتدم بين العمال وترفع مستوى العنصرية والقومية وتزيد الطلب الاستهلاكي والدعم الشعبي، فقد سبق أن التزمت معظم الدول، باستثناء الولايات المتحدة، بحماية حقوق العمل الأساسية بموجب اتفاقيات منظمة العمل الدولية. تُعتبر الولايات المتحدة إذاً أكبر استثناء في هذا المجال رغم دعمها المعلن للنظام الدولي المبني على القواعد، فثمة حاجة إلى بناء النوع نفسه من البنى التحتية المؤسسية لحماية حقوق العمال التي أمضت الولايات المتحدة آخر أربعين سنة وهي تُطورها لحماية حقوق أصحاب الأصول.

أخيراً، يجب أن تتبنى واشنطن مبدأ التنمية باعتباره جزءاً من حقوق الإنسان، فقد كانت هذه الفكرة قد حصدت دعماً قوياً في الأمم المتحدة منذ عام 1986 رغم معارضة الولايات المتحدة وديمقراطيات غنية أخرى، بالإضافة إلى تحرير القيود المفروضة على الملكية الفكرية والسياسة الصناعية، تتطلب هذه العملية زيادة كبرى في صناديق التنمية الأميركية في الأماكن المتعطشة إلى الرساميل منذ فترة طويلة. يثبت الاتفاق المبرم حديثاً حول الحد الأدنى العالمي لضريبة دخل الشركات، وهو قرار اتخذته معظم الديمقراطيات الغنية، أن جهود التنسيق متعددة الجوانب قد تُمهّد لنشوء اقتصاد عالمي أكثر إنصافاً، لكن هذا الوضع يرسّخ الانقسامات بين الأغنياء والفقراء عبر تجاهل رغبة الدول النامية في رفع المداخيل، وربما تقضي الخطوة الإصلاحية المقبلة بزيادة معدل الضرائب العالمية على الشركات لتوفير مصدر ثابت لتمويل التنمية في الدول ذات الدخل المنخفض. لطالما كانت استثمارات القطاع الخاص في الدول النامية مجزأة ومتقلبة، فلا تحتاج هذه الأماكن إلى عائدات سريعة بل إلى استثمارات تحويلية وطويلة الأمد لزيادة قدرتها على جمع الثروات بشكلٍ دائم، وتسمح هذه المقاربة بإنهاء الفقر المدقع الذي يصيب مليارات الناس تزامناً مع توفير فرص جديدة وضخمة للشركات الأميركية والعمال الأميركيين.

يسهم كل تدبير من هذا النوع في تقوية التدابير الأخرى، فتنشأ بنية جديدة من النمو العالمي، بما يشبه اقتصاد "الاتفاق الجديد" الذي أنشأ الطبقة الوسطى الأميركية لكن من دون الأهوال التي سبّبتها قوانين جيم كرو والحرب الباردة، ومن خلال المشاركة في إعادة إحياء النمو العالمي وتوزيع منافعه على نطاق أوسع، قد تعزز هذه التدابير الازدهار في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، فتتجدد شرعية العولمة والقيادة الأميركية من خلال ربطها بركيزة شاملة. تسمح هذه المقاربة بتخفيف التوتر الذي يحمل خطورة استثنائية اليوم في العلاقات الأميركية الصينية لأن تعزيز النمو في الاقتصاد العالمي سيفسح المجال أمام نجاح البلدين في الوقت نفسه، والأهم من ذلك هو أن النمو الشامل في الاقتصاد العالمي سيفرض الظروف التي تسمح بإطلاق موجة جديدة من جهود إرساء الديموقراطية. لن تترسخ الديموقراطية عبر تعميق الصراعات الشائكة مع الدول الاستبدادية بل عبر تجريدها من مظاهر اللامساواة والتهميش ومشاعر البغض التي تشكّل مصدر قوتها الأصلية.

* جايك ويرنر

جايك ويرنر