بعد تسعة أشهر من حمل "غير مرغوب فيه" بالتكليف، انتهى مخاض التأليف باعتذار الرئيس سعد الحريري عن تشكيل الحكومة اللبنانية، وإجهاض آخر محاولات انتشال لبنان من واقعه المتردي وأزمته غير المسبوقة.الإحراج للإخراج، ذلك هو عنوان التكتيك (القصير المدى) الذي لاعبت فيه الدوائر المحيطة بالقصر الجمهوري الرئيس المكلف، وبالمقابل فإن التمسك "بالمبادرة الفرنسية"، كانت الذريعة التي سعى من خلالها سعد الحريري إلى تسجيل أهداف (غير محسوبة) في مرمى العلاقة المتوترة مع الرئيس وصهره! كل ذلك، و"شعب جهنم العظيم" يزداد قهراً وفقراً ويئن في القعر الذي أوصله إليه سياسيوه المتخبطون في آخر أيام وجودهم!
لا شك أن للأزمة اللبنانية أبعاداً محلية وحسابات شخصية ومصالح حزبية، ولكن في سياق التحليل السياسي الجدي من غير المجدي الالتفات لها، إذ إن الكلمة الفصل ستكون، كما العادة، للتوازنات الإقليمية والإرادة الدولية التي سترسم مستقبل "الكيان اللبناني الجديد"، فما يخطط للبنان، أبعد من المناكفات بشأن الصلاحيات الدستورية، وأوسع من القلق المبتدع من "المثالثة" الطائفية، وأخطر من التعلق النظري بحسنات "الفدرالية"، وأكثر أهمية من تفاهات الطبقة السياسية، وأوضح من عمى مناصريها من المرتزقة والطائفيين.ما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبه التاريخ اللبناني في ثمانينيات القرن الماضي بحاضره المحكوم من جماعة سياسية أقصى ما تقدمه لشعبها شعارات فارغة، وأبعد ما تصل اليه طموحاتها مكتسبات "شعبوية" باسم الطائفة حيناً وبقوة التعنت أحياناً وبوجود السلاح دائماً!عندما بلغت "منظمة التحرير الفلسطينية" ذروة قوتها العسكرية في لبنان، قامت إسرائيل في عام 1982- بغطاء من المجتمع الدولي- باستئصالها من خلال اجتياح أغرق لبنان ببحر من الدم والنار، وأنهك اقتصاده وعملته الوطنيين! وعندما وصل في عام 1988 العماد ميشال عون الى القصر الجمهوري كرئيس للوزراء، خاض حربي "الإلغاء" و"التحرير" تحت شعارات جذّابة ما زال مناصروه يستذكرونها بنشوة وتعصب، وفي المحصّلة استطاع "العالم" من خلال الجيش السوري أن "يسحق" لبنان وجيشه والقصر الجمهوري دون أن "يأخذ توقيع الرئيس" على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية!"حزب الله" اليوم، باعترافه وبإقرار الداخل والخارج، هو الأقوى والأعتى والأكثر حضوراً وتأثيراً من الدولة والجيش وكل القوى السياسية والحزبية، وهو أصلب من أن تنزع مواطن قوته دون مخاض دموي أليم وشديد وبعيد المدى. أما "العهد" فعلى عهده القديم؛ لا يستطيع العالم أن يأخذ توقيعه على حكومة لا يستسيغ سياسة رئيسها ولا يستلطف نديته، رغم كل الانهيارات الاقتصادية والمعاناة الاجتماعية والانحلالات الكيانية.لبنان، في هذه اللحظة المفصلية من تاريخه، تجاوز مفترق الطرق الكياني واقتيد جبراً الى درب الجلجلة الدولي، الطويل، والمؤلم. درب، هدفه مصير حزب الله، وأداته التعنت السياسي، وضحيته الشعب اللبناني، ونتيجته الحتمية تبديل لوجه لبنان المعروف، فاعتذار الرئيس الحريري، وما سيتبع ذلك من انهيار مالي وغضب شعبي قد يصل حد الانفلات الأمني، سينقل الى العلن ما يدور في كواليس المجتمع الدولي الذي وضع مصير حزب الله ومعه مصير الكيان اللبناني على مشرحة التوازن المحكوم بالثوابت المعروفة وهي: أمن إسرائيل، والملف النووي الإيراني، والصراع السني-الشيعي، والمصالح الروسية-الأميركية. بعيداً عن نظرية المؤامرة، أثبت التاريخ أن الدول الكبرى تحسن استغلال اللحظات المفصلية في مسار البلدان الضعيفة، فسواء أكان الانهيار الاقتصادي والمالي مفروضاً بتخطيط دولي أو ناتجاً عن تخبط داخلي أو حصيلة لكليهما معاً، فإن التدويل للأزمة اللبنانية صار واقعاً لا مفر منه، والعقوبات المالية هي أول إرهاصاته.في العقود الأخيرة نجح المجتمع الدولي برسم وتسويق الأهلة السنية والشيعية، وحدد بوضوح قواعد الفصل والاشتباك بينها، فسمح بتقوية الهلال الشيعي الممتد من طهران الى بعض العواصم العربية ليكون فاصلاً بين الهلال السني الآسيوي الواقع في شرق إيران والهلال السني العربي الواقع غربها.وفي هذا السياق يستعد المشرط الدولي للتدخل الجراحي في مصير حزب الله الذي صار مهدّداً للأمن الإسرائيلي، أكثر مما يجب، وأكثر مما يسمح له فيه، ومع صعوبة إلغائه شعبياً وخطورة سحقه عسكرياً على الأمن الإسرائيلي، تخطط دوائر القرار الدولية لسيناريو لبناني يشبه كثيراً السيناريو السوري والعراقي، فتبعاً للمعطيات والوقائع التي يمكن أن تستجد تحت وطأة الانهيار المالي والانفلات الأمني، سيجد لبنان نفسه أمام خيارين وحيدين، كلاهما مرتبط بما يرسم لحزب الله: فإما سيلحق "الكيان اللبناني الجديد" بالحصة الروسية، فيتخذ القرار بأن يصبح رسمياً جزءاً من الهلال الشيعي بشرط بقائه تحت سقف عدم التهديد الجدي للمصالح الغربية والإسرائيلية، وإما سيغامر الغرب بإنهاء قوة حزب الله عسكرياً، الأمر الذي سيؤدي حتماً الى استنساخ تجربة الحرب السورية وتكرارها في لبنان، مما يمهد لنوع جديد من الانتداب الدولي يتماشى مع مقتضيات القرن الحادي والعشرين.صار مرجحاً، أن لبنان ذاهب للأسف الى مزيد من الضعف والتبدل الجذري في صورته الحضارية ووجهه الثقافي المشعّ، وسيذهب معه العرب اللاهون والمنشغلون بأزماتهم الداخلية الى مزيد من التفكك والهوان والتشرذم الطائفي.
مقالات
إحراج للإخراج... لبنان إلى أين؟!
18-07-2021