ما وراء التباعد بين الولايات المتحدة وأوروبا
لا يتعلق أكبر تهديد يواجهه الغرب بالاستقلالية الأوروبية بل بالضعف الأوروبي، فقد بدأ مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية يتحول إلى مصدر خطر على الغرب، ووفق هذه النظرية، يسهل أن تنفصل أوروبا التي لا تتكل على الولايات المتحدة عن التحالف العابر للأطلسي، حتى لو كانت واشنطن تنشغل بالاستعداد لمواجهة بكين، لكنّ الواقع مختلف بالكامل: لن يصمد الغرب من دون أوروبا القوية!يبدو أن موقف الولايات المتحدة من حلفائها اليوم أصبح نقيضاً لما كان عليه في السابق، وكأن آسيا وأوروبا تبادلتا الأماكن، فخلال الحرب الباردة، لم تتردد واشنطن في فرض قوتها صراحةً عند التعامل مع اليابان أو إندونيسيا أو الفلبين، فقد كان استعراض القوة بهذا الشكل يستحق العناء لمنع حصول انقلاب شيوعي في جاكرتا أو مانيلا.اليوم، تبدو أوروبا أشبه بساحة لعب بدل أن تكون لاعبة مؤثرة بحد ذاتها، فقد أوضح وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، خلال زيارته إلى باريس في نوفمبر الماضي أن واشنطن لا تهتم إلا بمنع نشوء نسخة معاصرة من الانقلاب الشيوعي، مما يعني استيلاء الصين على شركات التكنولوجيا الأوروبية.
تجازف الولايات المتحدة بهذه الطريقة بإبعاد أوروبا عن التحالف الغربي، حيث يظن عدد كبير من الأميركيين اليوم أن أوروبا لم تعد شريكة لهم بقدر ما أصبحت جائزة بحد ذاتها، إذ تتعدد العوامل التي تفسّر السبب الذي جعل واشنطن تشعر بأنها ما عادت بحاجة إلى مراعاة الآراء أو الرغبات الأوروبية.أولاً، لم تعد أوروبا محور النشاطات الأساسية اليوم بعدما أصبحت الصين منافِسة الولايات المتحدة الأساسية بدل روسيا، وفي المقابل اكتسبت اليابان والهند أهمية متزايدة.ثانياً، خسرت أوروبا قدراتها الاقتصادية والعسكرية، فإذا اضطرت أوروبا للخضوع لسيطرة روسيا أو الصين، فمن يستطيع ردع هذين البلدين؟ لن يتمكن الأوروبيون من فعل ذلك.ثالثاً، تشعر واشنطن اليوم أنها أصبحت أكثر ضعفاً مما كانت عليه خلال الحرب الباردة، فلم يتجاوز الاتحاد السوفياتي يوماً عتبة الأربعين في المئة من الناتج الاقتصادي الأميركي، لكن الصين تسجّل 70% من ذلك الناتج راهناً وقد تختفي هذه الفجوة بالكامل خلال أقل من عشرين سنة، وسيؤدي ظهور خصم متكافئ إلى تراجع سخاء الولايات المتحدة وتوسّع مذهبها التجاري. بدا وكأن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل انشغلت بمسألة الضعف الأوروبي خلال الأشهر الأخيرة من عهدها، ويبدو أنها تُصِرّ على توجيه هذا الإنذار إلى القادة الآخرين قبل تنحّيها، فحين اجتمع الرئيس الأميركي جو بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، اعتبرت ميركل أن أوروبا تحتاج إلى التعبير عن رأيها الخاص في المسائل التي تطرح المخاطر على أمنها وازدهارها.وفق شخصٍ كان حاضراً في قمة المجلس الأوروبي حيث كان هذا الموضوع محط نقاش، بدت ميركل عاطفية على نحو غير مألوف حين تكلمت عن هذه المسألة، لكن حين انضمّت إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدعم قمة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، انهار الاقتراح الفرنسي الألماني سريعاً نتيجة تبادل الاتهامات بين القادة الأوروبيين الآخرين.برأي عدد من الدبلوماسيين في أوروبا الوسطى والشرقية، يستطيع بايدن أن يقابل بوتين وهو في موقع قوة، لكن موقف الاتحاد الأوروبي سيكون ضعيفاً في المقابل، وفي ظل توسّع مظاهر الانهزامية، قد يضطر الاتحاد الأوروبي للرضوخ لمصيره ويبدأ بالاتكال على الإمبراطورية الأميركية الجديدة سياسياً واقتصادياً، فإذا تحقق هذا السيناريو، قد يكون الدبلوماسيون الخائفون محقين باختيار الولايات المتحدة المتفوّقة بدل الخيارات الأخرى، لكن يجب ألا يحمل أحد أي أوهام حول ما سيحصل: لن تكون هذه النتيجة مرادفة لإعادة رسم معالم الغرب، بل إنها تعني زواله. حين يمرّ أي زواج بأزمة معينة، تبدأ المشاكل دوماً عندما يبحر الطرفان في مسارات مختلفة، ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه إلى خوض حرب باردة جديدة ومشوّقة، في حين تتراجع أوروبا وتغرق في جمود جيوسياسي تام.* برونو ماكيس