ثقافة للبيع!! *
لم تمانع كثير من إدارات المتاحف والمراكز الثقافية في أوروبا وأميركا افتتاح «فروع» لها في بعض المدن الثرية، فهناك كثير من الربح في الوقت الذي تقلصت النفقات على الثقافة في بعض هذه الدول أو حتى شحت، وطالبت الحكومات الهيئات المشرفة على هذه المراكز أن توفر الدعم المالي الذي تحتاجه بنفسها، أي العودة لرفع الدولة مسؤوليتها ويدها عن الثقافة كما هي مسؤوليتها تجاه صحة وتعليم مواطنيها. جاؤوا فرحين من مدن بقيت سنين طويلة تنشر النور، حتى عندما ضعف نورها استمرت تلك المراكز من متاحف ومعارض فنية ومراكز بحثية وجامعات تنشر بعضاً من إشعاعات الفكر والثقافة المختلفتين الخارجتين عن المنظومة العامة أو المعتاد، هم فتحوا آفاقاً وفضاءات واسعة لكل البشر ليجد أي فرد، عاشق للفن والإبداع والفكر والتجديد في كل ذلك، مساحات واسعة مفتوحة على فضاءات الكون. بقيت هذه المراكز رغم ما أصيبت به الثقافة عالميا من وهن أو ضعف مع توجه متوحش عالمي إلى كل ما هو مادي محسوس بعيداً عن حقبة كان الفكر هو ما يميز الفرد فيها، واستطاعت رغم كل ذلك أن تحافظ على بعض إرثها وتراثها، ولم تتهاون في ذلك، بل بقيت فخورة بصمودها حتى حصل ما حصل، وجاءت الإغراءات المالية في زمن شح المال، والكل يعرف أن إدارة مراكز ثقافية مكلف هو الآخر، فكان أن رضخت تحت حجج مختلفة، ففي افتتاح فرع لهذا المتحف أو ذاك المركز أو تلك الجامعة نشر للثقافة والعلم وهي «عولمة» للثقافة لا رأس المال!!! وهناك منفعة على الجهتين «الشاري» و»البائع» أو القابل لثقافة الفروع في بقاع الكون كمطاعم الوجبات السريعة!!
كانت هناك عدة تبريرات لتواجه انتقادات لاذعة من صحافة هي الأخرى بقيت محافظة على بعض استقلاليتها في ظل هيمنة كاملة لرأس المال على كل شيء، كل شيء وكل أمر.. شن كثير من الكتّاب هجوماً لاذعاً وأطلقوا على القائمين على هذه المؤسسات الكثير من الصفات، لكنها بقيت على مسارها في مشوار التوسع من أجل البقاء ربما! القائمون على هذه المؤسسات الثقافية يدركون أن الثقافة لا تُشترى ولا تُباع، وأنها ليست مبنى بموظفين متخصصين في مجالهم، لكنها منظومة متكاملة أوسع بكثير من قاعات بلوحات لفنانين عريقين أو بحوث وكتب لباحثين متعمقين أو صفوف دراسية يديرها أساتذة مهتمون بموادهم.. هي أوسع من ذلك بكثير وإلا فهي تفقد إشعاعها وتنطفئ سريعا جدا.. باستطاعتك أن تبني أجمل المباني وأكثرها تناسقا مع الإطار المعماري لتلك المدينة التي فقدت كثيراً هويتها في جريها السريع نحو أخذ المركز الأول في موسوعة غينيس عبر أعلى بناية وأكبر منتجع و... و... وكلها الأكبر والأعلى والأول بمقاييس بعيدة جداً عن الثقافة والتنوير والإشعاع، فقط بريق الذهب على قطعة من النحاس!!!هم نسوا أو تناسوا وهم يوقعون الصفقات المليونية أن المركز الثقافي بحاجة لمساحات واسعة محيطة به تشكل إطاراً أوسع حتى القهوة المحاذية فيها تفاصيل مختلفة تماما عن مقاهي العولمة بفروعها المتعددة، ومذاقاتها نفسها توزعها على الكون، فالمراكز والمتاحف جاذبة للكثير من البشر المحبين والعاشقين لما تحمله لهم أو حتى للمساحات التي تسمح بوجودها فقط، فيجد كل باحث عن النور مكاناً مهما كان صغيراً خاصاً به أو بها.. هكذا تتحول تلك المؤسسات إلى مراكز عابرة للفكر والقارات والمحيطات والحدود كلها.. عندها لا أسوار على الفكر ولا مقاييس لا تستيطع أن تبعد بتفكيرك عنها ولا خطوط حمراء لأي حديث سواء كان حول رجال أو نساء، أو حول الدين والطائفة والعرق والمجتمع ككل.. مساحات وفضاءات لا حدود لها فكيف تستطيع أن تنقل كل ذلك إلى مدن واسعة بمقاييس محددة وحدود وخطوط حمراء ورفض لكل من لا يشبهني أو يتحدث مثلي.. كل شيء يمكن أن يباع ويشترى من الهمبورغر حتى الحقائب النسائية الثمينة، وكلها يمكن أن تعبر الحدود إلا الفكر فهو الوحيد الذي لم تشمله عولمتهم بعد، وأصبح لنا مقاييسنا لحقوق الإنسان والحريات وحق التعبير وحق التفكير أصلا فهو الآخر مرفوض مرفوض يا ولدي.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.