علم الصيغة وجوهر المشكلة اللبنانية
كان عازماً على إصدار الكتاب بعد آخر تعديل أجراه عليه يوم 6/ 6/ 2011، لكن المنية عاجلته ليختطفه الموت يوم 9/ 7/ 2011 وينتقل إلى جوار ربه وينقل جثمانه إلى بلدته «جاج» في بلاد الأرز. نستذكر الزميل والصديق سهيل عبود هذه الأيام ونحن نعيش في ظل كارثة سياسية واقتصادية تكاد تغطي على جوهر مشكلة الكيان اللبناني. سهيل عبود اختبر النظام السياسي من الداخل، اقترب كثيراً من أصحاب القرار السياسي وكان على صلة مباشرة بالأحداث التي عصفت بهذا البلد منذ الحرب الأهلية عام 1975 وما قبلها، وهو في موقع «النضال» مع الحزب الشيوعي اللبناني. ليس ذلك فقط بل مارس مهنة الكتابة والصحافة مبكراً، امتهن التحليل السياسي جيداً، فهو قارئ نهم ومن المثقفين الذين تعبوا على أنفسهم بالقراءة والمحاورة، درس الأيديولوجيا الماركسية وأجاد «التنظير» وقراءة الأحداث بصورة تنم عن مستوى عميق في الفكر السياسي.
في الكويت عملنا سويا في «القبس» جاءنا بعد التحرير وتزاملنا لمدة تسعة عشر عاماً تقريباً.. كان مكتبه أشبه بملتقى سياسي وثقافي وعلى مدار الساعة حتى أيام العطل، تجلس منصتاً ومشاركاً حول أحدث النظريات في عالم السياسة وما يدور في كواليس الساسة اللبنانيين. لم يتسن للزميل سهيل عبود أن ينجز كتابه الذي أخذ منه الكثير وكدنا نعرف محتواه قبل أن يصدر وفي كل مرة كنا نسأله، متى سيصدر الكتاب يجيب بكلمته المحببة «بسيطة» وهي الكلمة الدارجة في قاموسه اليومي وفي كل الأحوال والتقلبات والزلازل السياسية وحتى في الحروب التي تحدث أمامنا. كانت «البروفة» الأخيرة أو بالأحرى أحدث نسخة أودعها عند أقرب أصدقائه هو الزميل أحمد طقشة، اختار لها عنوان «علم الصيغة» أو «مثلثات الانتقال من الريف إلى المدينة «. توقيت الإعداد جاء في خضم اشتعال ثورات الربيع العربي، يتحدث عن «علم الصيغة» بكونه مغامرة جديدة بعد أن أدى طغيان مفاهيم «الدولة - الأمة» عليها، وكاد يغيبها، فدولنا من المغرب حتى باكستان من وجهة نظره هي في أحسن الأحوال حصيلة «المساحة» الناتجة عن تعاون المجموعات أو «المساحة» التي تفصل وتجمع في آن واحد، بين هذه المجموعات في دول الصيغة التقليدية مثل لبنان. يلخص فكرة علم الصيغة، بالقول إن الواقع الذي نعيشه يجعل الفصل الحقيقي بين مفهومي الدولة والسلطة مستحيلاً في بلداننا، وإن كان موجوداً في النصوص الدستورية وعلى صعيد الشكل القانوني للدولة. هناك قوانين جديدة تحكم الصيغة أهمها على الإطلاق قوانين الانتقال من الريف إلى المدينة، وهي ذات مظهر ثلاثي تقليدي وقومي وديني، وتتبدل حسب نوعية الجمهور الذي يهيمن على الدولة، وهذه المراحل الثلاث تطبع مسيرة كل كائن سياسي، سواء كان دولة أو حزبا أو مؤسسة سياسية في عالم الصيغة. ما هو جدير بالتوقف عنده، تناوله للمسألة اللبنانية وإسقاط علم الصيغة عليها، والتحليل الذي وصل إليه، فلبنان يمر بمرحلة تقليدية يحتجز فيها المرحلتين القومية والدينية.. ولا تستطيع أي طائفة إنجاز المراحل الثلاث منفردة دون مساعدة أو تعاون الطوائف الأخرى. فإن كان قتال عون- جعجع عام 1990 هو آخر أشكال انتقال الطائفة المسيحية من الريف إلى المدينة، فإن المسيحيين لم يستطيعوا مغادرة دورات الصيغة الثلاث والانتقال إلى مرحلة الليبرالية، خصوصاً عبر انتخاب رئيس جمهورية ليبرالي لأنه أمر لن يسمح لها به لأن ذلك يهدد بتفكيك اجتماع بقية الطوائف مع محاولة بشير الجميل توحيد المسيحيين بالقوة، وقد فشلت هذه المحاولة في حين نجحت عمليات التوحيد القسري في طوائف أخرى. ينظر المرحوم الزميل عبود إلى تحالف حزب الله مع ميشال عون بأنه بمنزلة حاجز أمام انتقال المجموعة المسيحية إلى المرحلة الليبرالية، في حين تمسك المرحلة الدينية (حزب الله) بالطائفة الشيعية لكن الرئيس رفيق الحريري نجح في تجديد الزعامة التقليدية للسنة، وذلك لم يكن ممكنا دون دعم عربي كبير وهو ما تفتقده الطوائف الأخرى. إن ورقة التفاهم بين عون وحزب الله هي نتاج مراوحة الموارنة عند المرحلة الثالثة وعدم قدرة الشيعة على مغادرتها، لذلك ارتد ميشال عون إلى الوراء واستند حزب الله إليه.