تحتفل الأوساط الأمنية الباكستانية بالمكاسب العسكرية التي حققتها حركة "طالبان" حديثاً في أفغانستان، حيث يقدّم المتشددون في البلد الدعم لهذه الحركة منذ عقود، وهم يتوقعون الآن أن يستقر حلفاؤهم بقوة في كابول، فقد حققت باكستان ما تريده، لكنها ستندم على ذلك قريباً، ونتيجة توسّع سيطرة "طالبان" ستصبح باكستان أكثر عرضة للتطرف محلياً وقد تزداد عزلتها على الساحة العالمية.طوال عقود، خاضت باكستان لعبة خطيرة عبر دعم "طالبان" أو التساهل معها وحاولت في الوقت نفسه الحفاظ على علاقات حسنة مع واشنطن، ونجحت هذه المقاربة لفترة تفوق التوقعات، لكنها غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل، كما تمكنت باكستان من تأجيل المواجهة الحاسمة دوماً، لكنها ستصل قريباً إلى نهاية الطريق.
هوس فائق في الهند
لطالما كانت الأوساط الأمنية الباكستانية مهووسة بفرض حكومة ودية في كابول، يعود هذا الهوس في الأصل إلى الفكرة القائلة إن الهند تخطط لتفكيك باكستان بين مختلف الجماعات العرقية وإن أفغانستان ستصبح منصة لإطلاق حركات تمرد معادية للحكومة في إقليمَي بلوشستان وخيبر بختونخوا في باكستان. تشتق هذه المخاوف من مطالبة أفغانستان بأجزاء من بلوشستان ومناطق البشتون عند نشوء باكستان في أغسطس 1947، فقد اعترفت أفغانستان بباكستان وأقامت علاقات دبلوماسية معها بعد أيام قليلة لكنها لم تعترف بخط دوراند الذي رسمه البريطانيون كحدود دولية قبل عام 1976، كذلك، حافظت أفغانستان على علاقات ودية مع الهند، لذا سمحت باكستان للإسلاميين الأفغان بتنظيم صفوفهم على أراضيها قبل الاحتلال السوفياتي لأفغانستان في عام 1979.رغم التعاون الواسع بين الولايات المتحدة وباكستان في أفغانستان خلال الحرب الباردة، لم ينجح البلدان في التوفيق بين مصالحهما المختلفة في ذلك البلد، فأرسلت واشنطن الأسلحة والمال إلى المجاهدين عبر باكستان كجزءٍ من استراتيجية عالمية لإضعاف الاتحاد السوفياتي، لكنها لم تهتم كثيراً بتحسين مستقبل أفغانستان بعد رحيل السوفيات. في المقابل، اعتبر المسؤولون الباكستانيون الجهاد المعادي للسوفيات فرصة لتحويل أفغانستان إلى دولة تابعة لهم. ففضّلوا دعم أكثر المجاهدين تطرفاً على أمل نشوء حكومة مستقبلية تخضع لسيطرتهم وترفض النفوذ الهندي وتشارك في قمع النزعة القومية العرقية البلوشية والبشتونية على طول الحدود المشتركة.تفاقمت هذه الخلافات العالقة خلال العقود اللاحقة، ورغم تحوّل باكستان إلى المعقل اللوجستي للقوات الأميركية في أفغانستان غداة هجوم 11 سبتمبر، شعر المسؤولون في إسلام أباد بالقلق من تنامي نفوذ الهند في كابول. دعم الجيش الباكستاني حركة "طالبان" باعتبارها واقعاً ملموساً لا يمكن تجاهله، وفي الوقت نفسه، كان مؤيدو الإسلاميين، بمن في ذلك المسؤولون في السلطة، يستمتعون بإيذاء الولايات المتحدة.أعلن الجنرال حميد غول، رئيس وكالة الاستخبارات الباكستانية، في عام 2014 أن الاستخبارات استعملت المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة بعد هجوم 11 سبتمبر لمتابعة تمويل "طالبان" واستفادت من القرار الأميركي المرتبط بتجاهل الجماعة الإسلامية الأفغانية في المراحل الأولى للتركيز على مطاردة "القاعدة". صرّح غول على التلفزيون في عام 2014: "حين يُكتَب التاريخ، سيذكر أن وكالة الاستخبارات الباكستانية هزمت الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بمساعدة الولايات المتحدة. ثم سيذكر عبارة أخرى: وكالة الاستخبارات الباكستانية هزمت الأميركيين بمساعدة الولايات المتحدة".في المرحلة اللاحقة، جاهر كبار المسؤولين الباكستانيين بفشل الولايات المتحدة في التخلص من "طالبان". برأيهم، يشير تواصل واشنطن مع الجماعة الإسلامية بالوسائل الدبلوماسية إلى اعترافها الضمني بنفوذ الحركة في أفغانستان، فبعد توقيع اتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة و"طالبان" في فبراير 2020، وهو الاتفاق الذي مهّد لسحب القوات العسكرية الأميركية، نشر خواجة محمد آصف، وزير الدفاع والخارجية الباكستاني السابق، صورة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أثناء اجتماعه مع زعيم "طالبان"، المُلا عبدالغني بردار، ثم أضاف التعليق التالي: "قد تكون القوة إلى جانبكم، لكنّ الله معنا. الله أكبر"!لكن من المتوقع أن يترافق هذا الانتصار الظاهري مع نتائج عكسية، إذ لم يعترف الأميركيون يوماً برؤية باكستان التي تعتبر الهند تهديداً وجودياً عليها، وفضّل المسؤولون الباكستانيون على مر السنين إنكار التحركات الباكستانية في أفغانستان أو تبريرها، وهذا ما دفع الأميركيين إلى اتهامهم بالخداع وسرعان ما تلاشت الثقة في العلاقة الثنائية. تأثرت العلاقات مع الهند وبقية دول العالم أيضاً، وباتت باكستان تتكل على الصين بدرجة مفرطة.من أصل ديون خارجية بقيمة 90 مليار دولار، تدين باكستان بـ27% (أي أكثر من 24 مليار دولار) لبكين، حتى أنها اضطرت للاتكال على التكنولوجيا العسكرية الصينية الأقل جودة بعد خسارة المساعدات العسكرية الأميركية.بلد غير طبيعي
أدى دعم الجهاد طوال ثلاثين سنة إلى تعزيز الاضطرابات الداخلية في باكستان، وتخبّط الاقتصاد المحلي بقوة، باستثناء السنوات التي تلقى فيها البلد مساعدات أميركية سخية، كذلك حرّض المتطرفون الإسلاميون المحليون على ارتكاب أعمال عنف متقطعة، منها اعتداءات إرهابية ضد الأقليات الدينية وأعمال شغب تطالب بطرد السفير الفرنسي بسبب إهانات مزعومة في فرنسا ضد النبي محمد. في غضون ذلك، أصبحت حقوق المرأة محط تشكيك وتهديد علناً، وتخضع أبرز وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لرقابة مستمرة لمراعاة الأفكار الإسلامية المتطرفة. اضطرت الحكومة أيضاً "لأسلمة" المنهج الدراسي على حساب حصص العلوم والتفكير النقدي.على صعيد آخر، يتزامن الانسحاب الأميركي من أفغانستان مع إطلاق وعود بعكس هذه النزعات كلها، فمنذ أربع سنوات، أعلن قائد الجيش الباكستاني الراهن، الجنرال قمر جاويد باجوا، أنه يريد تحويل باكستان إلى "بلد طبيعي". هو يتكلم منذ ذلك الحين عن ضرورة تحسين علاقات البلد مع الهند وتخفيف اتكال باكستان على الصين.شملت رؤية التغيير هذه جهوداً لتسهيل عقد تسوية في أفغانستان، فبدأت باكستان تبني سياجاً في المنطقة الحدودية الطويلة والقابلة للاختراق مع جارتها، وقدمت اقتراحات عدة للحكومة في كابول، وتعهدت بمساعدة الولايات المتحدة على عقد اتفاق سلام. كذلك، عبّر باجوا عن استعداد باكستان لزيادة شركائها في أفغانستان كي يشملوا جماعات مختلفة عن "طالبان"، ونظّمت وكالة الاستخبارات الباكستانية أيضاً لقاءات بين مفاوضين أميركيين وبعض قادة "طالبان"، مما مهّد لعقد اتفاق الدوحة الذي يحدد مهلة زمنية لانسحاب الجيش الأميركي مقابل وعود مبهمة من "طالبان" ببدء محادثات السلام مع الأفغان الآخرين ومنع استعمال الأراضي التي تسيطر عليها لإطلاق اعتداءات إرهابية ضد الولايات المتحدة.لكن بدل تسهيل العودة إلى الحياة الطبيعية في باكستان، سيؤدي هذا الاتفاق إلى تفاقم التحديات التي يواجهها البلد. نظراً إلى الأيديولوجيا المتشددة التي تحملها "طالبان"، من غير المنطقي أن يصدّق المفاوضون الأميركيون استعداد الحركة لتقديم التنازلات لصالح الأفغان الآخرين، لا سيما الحكومة في كابول، وسهّلت باكستان عقد هذا الاتفاق على أمل أن تُحسّن موقفها تجاه الولايات المتحدة، لكن يرتفع اليوم احتمال أن تتلقى اللوم على رفض "طالبان" وقف القتال وتقاسم السلطة. كذلك، أُعيقت رغبة باجوا المعلنة بتغيير مسار البلد بسبب سياسات باكستان السابقة، ونظراً إلى سوء العلاقات بين باكستان ومعظم الجماعات الأخرى في أفغانستان، قد يضطر البلد للتمسك بدعمه لحركة "طالبان" إذا تجددت الحرب الأهلية على طول الحدود الشمالية الغربية.في الوقت نفسه، لن يحقق هذا الاتفاق أهداف واشنطن المرتبطة بمكافحة الإرهاب، حيث يذكر تقرير صادر عن مجلس الأمن في شهر يونيو الماضي أن حركة "طالبان" لم تقطع علاقاتها مع تنظيم "القاعدة" وأن كبار المسؤولين في "القاعدة" قُتِلوا حديثاً إلى جانب عناصر من "طالبان" كانوا يشاركونهم الموقع نفسه، ويذكر التقرير أيضاً "شبكة حقاني" التي اعتبرها الجيش الأميركي يوماً "سلاحاً حقيقياً بيد وكالة الاستخبارات الباكستانية" باعتبارها صلة الوصل الأولية بين "طالبان" و"القاعدة"، ويضيف التقرير: "لا تزال الروابط بين الجماعتَين وثيقة، وهي ترتكز على اصطفاف أيديولوجي واضح، إنها علاقات مبنية على النضال المشترك والزواج المختلط".في غضون ذلك، أعلن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن "القاعدة" قادرة على إعادة تشكيل نفسها خلال سنتين بعد الانسحاب الأميركي، لكن لم يُغيّر أيٌّ من هذه الوقائع التزام الرئيس جو بايدن بسحب القوات الأميركية.تتوقع باكستان انتصار "طالبان"، مع أن قادتها يتابعون التكلم عن أهمية المصالحة بين الأفغان، فقد تتابع التصريحات العلنية الصادرة عن إسلام أباد التكلم عن رغبة باكستان في إرساء السلام، لكن من المستبعد أن يصدّق المسؤولون الأميركيون ادعاءات باكستان حول رفضها استيلاء "طالبان" على البلد عسكرياً، ويبدو أن العلاقة القائمة بين البلدين تتجه إلى فقدان مصداقيتها خلال السنوات المقبلة.برأي الباكستانيين الذين ينظرون إلى العالم انطلاقاً من المنافسة القائمة مع الهند، سيكون انتصار "طالبان" شكلاً من المواساة لهم، فلم تكن باكستان تبلي حسناً في تنافسها مع الهند على معظم الجبهات، لكن يبدو أن عملاءها في أفغانستان ينجحون في مساعيهم، حتى لو كانت باكستان تعجز عن السيطرة عليهم بالكامل.لكن يبقى هذا الانتصار مكلفاً جداً، ومن المتوقع أن تُبعِد هذه التطورات باكستان عن طموحها بإنشاء "بلد طبيعي"، فتزيد الاختلالات داخلياً ويَعْلَق البلد في سياسة خارجية تتأثر بالأعمال العدائية ضد الهند ويزيد اتكاله على الصين. يجازف تورط واشنطن وإسلام أباد في أفغانستان منذ فترة طويلة بإضعاف العلاقات الأميركية الباكستانية بدرجة إضافية، ومن المستبعد أن تسامح الولايات المتحدة باكستان قريباً على المساعدات التي تقدّمها لحركة "طالبان" منذ عقود، فخلال السنوات المقبلة، ستقرر باكستان ما إذا كانت الجهود التي بذلتها لفرض نفوذها في أفغانستان عبر عملاء "طالبان" تستحق العناء مع أن باكستان، بعد هجوم 11 سبتمبر، كانت تستطيع تحقيق مصالحها من خلال الانحياز الكامل إلى الأميركيين.*حسين حقاني