تصدعات متزايدة في نظام إردوغان
بدل تقييم الدول عبر مقارنة مظاهر الاستقرار والفوضى فيها، من الأفضل أن يقيّم المحللون عدم الاستقرار النسبي في البلد المعني، وانطلاقاً من هذا المعيار، تُعتبر تركيا الدولة الأكثر إثارة للاهتمام في الشرق الأوسط.على مستويات عدة، أصبحت السياسة التركية اليوم أقل استقراراً مما كانت عليه في السنوات الأخيرة، ولا يعني ذلك أن البلد سيشهد انتفاضة أخرى كتلك التي بدأت بسبب حديقة "غيزي" في صيف عام 2013 أو أن الرئيس رجب طيب إردوغان مُهدد بالسقوط، لكن من الواضح أن قدرة إردوغان على التحكم بجميع أنحاء البلد ضعفت اليوم، مما يزيد احتمال حصول احتجاجات واسعة النطاق وتنامي مظاهر العنف وتوسّع الصراعات السياسية في أعلى مراتب الدولة.متى بدأت تركيا تخسر استقرارها إذاً؟ يصعب تحديد لحظة مفصلية واحدة لأن انعدام الاستقرار ينجم عن تراكمات عدة، لكن يمكن اعتبار الاحتجاجات المرتبطة بحديقة "غيزي" في عام 2013 نقطة بداية للأحداث اللاحقة، تليها فضيحة الفساد التي سبّبها أنصار فتح الله غولن في نهاية تلك السنة وأسفرت عن طرد أتباعه من الحكومة ووسائل الإعلام وقطاع التعليم العالي في عام 2014، ثم تجددت الحرب المتقطعة مع "حزب العمال الكردستاني" في عام 2015، تزامناً مع انقلاب نتائج الانتخابات خلال السنة نفسها، ثم حصلت محاولة الانقلاب في عام 2016 وأدت إلى تراجع الفرص الاقتصادية في تركيا في العامَين 2018 و2019، وأخيراً انتشر فيروس كورونا في عام 2020.
لكن ما علاقة هذه العوامل كلها بالاستقرار؟ عملياً، يبدو الرابط بينها كبيراً، فتُعتبر الرؤية المستقبلية الإيجابية التي تبناها "حزب العدالة والتنمية" عنصراً أساسياً لكسب ولاء الناس والسيطرة على المجتمع، وعندما كانت ظروف الحياة تتماشى مع رؤية الحزب الحاكم، كما حصل خلال السنوات الأولى من عهد "حزب العدالة والتنمية"، بدت تركيا أكثر استقراراً، لكن بعد مرور سنوات، تتراجع أعداد الأتراك الذين يختبرون واقعهم بالشكل الذي يتكلم عنه الحزب الحاكم، وهذا ما يفسّر المشاهدات المليونية التي يحصدها سيدات بيكر وصحافيون منفيون مثل جوهري غوفين على يوتيوب وغياب الاستقرار في تركيا. بعد إعاقة رؤية الحزب، اضطر إردوغان للاتكال على المحسوبيات وأسلوب الإكراه للحفاظ على سيطرته، لكن تبقى هاتان الطريقتان مكلفتَين ومحدودتَين. يسهل أن تُمهّد هذه البيئة السياسية لظهور الخصوم، بحيث يكون بعضهم ضعيفاً، على غرار رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، ووزير الاقتصاد علي باباجان الذي كان يحظى باحترام كبير، وقد يتمكن هؤلاء من تجريد "حزب العدالة والتنمية" من بعض الأصوات، لكن أبرز العواقب في هذا المجال تتعلق بمناورات مسؤولين مثل وزير الدفاع الوطني خلوصي آكار، وخصمه في جهاز الاستخبارات الوطنية هاكان فيدان، وقائد القوات البرية، الجنرال أوميت دوندار. تُعتبر هذه الشخصيات موالية لإردوغان، لكن ما الذي سيحصل حين يصبح التماسك الاجتماعي مُهدداً بسبب أداء الرئيس الذي يفتقر إلى رؤية تستطيع الحفاظ على ولاء الناس؟ هل يمكن الاتكال على هؤلاء المسؤولين لضمان استمرارية هيمنة إردوغان و"حزب العدالة والتنمية" بفضل نفوذهم غير المسبوق؟ هذا النوع من الشكوك يعطي فرصاً قيّمة للشخصيات القوية والطموحة.لم يعد مسار تركيا السياسي واضحاً بأي شكل، فرغم جميع التحديات التي يواجهها هذا البلد، لا يزال "حزب العدالة والتنمية" التنظيم السياسي الأكثر شعبية محلياً ويبقى إردوغان أقوى مسؤول على الإطلاق، وقد يتعافى الاقتصاد في مرحلة معينة، ويفوز إردوغان في استحقاق انتخابي آخر بسهولة، فهل تُعتبر تركيا دولة مستقرة إذاً؟ لا يمكن إعطاء إلا جواب واحد: "نعم ولا"!* ستيفن كوك