عندما فقد الشعر الوزن والقافية (4-4)
تقول الشاعرة العراقية نازك الملائكة إنها "أول من كتب القصيدة الحرة في الشعر العربي الحديث، وذلك في قصيدتها "الكوليرا" التي نشرتها في مجلة العروبة ببيروت بتاريخ 1/ 2/1947" أما السياب، فيقول من ناحية ثانية "إن قصيدته من الشعر الحر بعنوان "هل كان حبا؟" التي ظهرت في ديوانه الأول "أزهار ذابلة" الصادر في القاهرة عام 1947، كانت قد كتبت قبل قصيدة نازك الملائكة". وتضيف د. سلمى الجيوسي أن الكثير من الجدل قد دار حول مسألة الأسبقية هذه، شارك فيها العديد من الشعراء، في مجلة "الآداب" البيروتية مثلا عام 1954، وتقول في الاستنتاج النقدي إن "قصيدة الملائكة أفضل الاثنتين، بينما قصيدة السياب أكثر حرية من وجهة نظر تقنية صرفة" (ص600). وتمضي د. الجيوسي في المقارنة وتحديد بدايات الشعر الحر، فتقول: "ويبدو أن القصيدة التي استهوت الشعراء الآخرين كثيراً هي قصيدة "في السوق القديم" التي كانت قد نشرت في بغداد سنة 1948 والقصيدة من البحر الكامل، وقد ساعدت في ترسيخ ذلك الوزن ليكون أول الأوزان المستخدمة على نطاق واسع في الشعر الحر، وقد جمع جمعا دقيقا بين الشكل والمحتوى". (ص 600).وفي المقارنة بين الأصالة للشاعرين تحكم د. الجيوسي بأن السياب "منذ بداياته يكشف عن فحولة القديم في أسلوبه ولغته بحيث لا يتطرق الشك إلى النبوغ الفذ الذي كان يكمن وراء تلك القصائد، وتنم القصائد الحرة في شعر نازك الملائكة عن نقاء في الأسلوب وخبرة في التقنية ورويّة فنية نادرة الوجود ليس بين الشاعرات وحسب بل بين الشعراء كذلك". (ص 600).
ولم يبرز شعراء جدد مشهورون على الساحة في مصر رغم أن البيئة المصرية كانت طويلا "تشجع التجريب والتنظير في الشعر"، ولم تُسمع في تونس أصوات شعرية مهمة بعد وفاة أبي القاسم الشابي عام 1934، ورغم بروز شعراء في سورية ولبنان عمر أبو ريشة، نزار قباني، سعيد عقل... إلخ فقد انتقل مركز الشعر الجديد إلى العراق. تقول د. الجيوسي: "كان العراق لقرون عديدة معقل الشعر الذي بقيت تقاليده حية في مراكز الشيعة والسنّة في البلاد". (ص 605) وتضيف الباحثة: "وكان العراق في أثناء ذلك قد أنجب شاعراً كبيراً هو الجواهري الذي عبر بشعره اللاهب عن ثورة الإنسان وغليانه الداخلي، وكان لشعره أثر عاطفي كبير في جمهوره، لكنه في أسلوبه ولغته كان يضرب في القدم بحيث لم يستطع أن يكون المثال الذي يصبو إليه شعراء الأربعينيات، رغم أن السياب ورث عنه جزالة في اللفظ وعاطفية في الأسلوب، كما تبعه في الصورة الشعرية والنبرة الغاضبة، ثم إن العراقيين، وهم أكبر القراء في الوطن العربي، كانوا يفيدون على مهل من التجريب والتنظير الذي كان يجري في مجالات شعرية أخرى في الوطن العربي، وبخاصة في مصر، ولكن من دون أن يتورطوا في متاهات الجدل النقدي". (ص 603).وكان هؤلاء الشعراء، إلى جانب تمرسهم في الثقافة الشعرية العربية مطلعين على الأدب الغربي، إذ "كان أغلبهم قد درس في كليات جامعة بغداد، حيث اطلعوا على الآداب الأجنبية، في لغاتها الأصلية أو في الترجمات، وقد دفعتهم سليقة شعرية حقيقية إلى التعرف على الشعراء الأكثر حيوية في العالم الحديث، مثل (ت.س.إليوت، وإيدث ستويل، وييتس، وأودن، وعزرا باوند)، إضافة إلى بعض شعراء الاشتراكية مثل (بابلو نیرودا، وناظم حكمت، وفيديريكو غارسيا لورکا، وإيلوار، وأراغون) وغيرهم، فأقبلوا على قراءة أعمالهم بنهم شديد، ولا يمكن التقليل من أهمية هذه المعرفة، لأنها أوضحت لهم إمكان التغيير، كما أنها قدمت لهم الأمثلة الضرورية". (د. الجيوسي، ص 606). وامتدت ثورة الأوزان والقوافي والأشكال الجديدة للشعر إلى الأشعار والقصائد الشعبية والعامية كذلك في العالم العربي، وبرز في هذا المجال كذلك شاعر عراقي هو "مظفر عبدالمجيد النواب" (مواليد 1934) الذي جمع في قصائده بين العامية والفصحى، فاشتهر بقصيدته السياسية "القدس عروس عروبتكم" التي استخدم فيها كلمات جارحة بذيئة ضد بعض الحكام وهاجم بقسوة التصالح مع إسرائيل، كما اشتهر بقصائد شعبية وبخاصة ديوان "الريل وحمد" وفيه إحدى أوسع الأغاني الشعبية العراقية. وقد عاش "النواب"، الذي تقول موسوعة الويكبيديا إنه يعود بنسبه الى إمام الشيعة "موسى الكاظم"، مطاردا في دمشق، قبل أن يعود إلى العراق سنة 2011.درست الباحثة د. الجيوسي "إنجازات الشعر الجديد" حتى قبيل 1980 في الفصل الأخير من كتابها، وتقف أولاً عند الشكل غير أن الكثير من هذا البحث مكتوب لأهل الاختصاص ودارسي الأوزان وغير ذلك، وتدرس الباحثة القافية في الشعر الحر، وتلاحظ أن "أغلب الشعراء المحدثين بقوا محافظين على تعلقهم بالقافية يستعملونها بطرائق شتى، وقد يحافظ بعض الشعراء على قافية واحدة، وقد يستعمل بعضهم عددا من القوافي لكنهم لا يصرون على ذلك في نهاية كل بيت، ومنهم من يهجر القافية نهائيا، ويغلب أن يستعمل الشعراء القوافي المغلولة، أي التي لا تنتهي بحركة إعراب بل بسكون". (ص 681) وتتحدث الباحثة عن قصيدة النثر والشعر الحر في الأدبين الإنكليزي والفرنسي، وتقول إن النثر الشعري في العربية "أسلوب في النثر عليه مسحة من الخيال، ويتخلله نوع من العاطفة يمكن أن توصف بأنها شعرية، لكنها لا تبلغ التوتر العاطفي الذي يميز الشعر". (ص 690).وعن قصيدة النثر والشعر الحر تقول د. الجيوسي "إن المصطلحين يستعملان في الإنكليزية والفرنسية للدلالة على نوعين مختلفين من الشكل الفني، وقد ظهرت قصيدة النثر الغربية الحديثة قبل ظهور الشعر الحر الحديث، وقد ظهرت عبارة "الشعر المنثور" عام 1905 على يد جرجي زيدان في وصفه لتجربة أمين الريحاني". أما قصيدة النثر تضيف فمصطلح ظهر أول مرة عام 1960 رغم قدم هذا الأسلوب. ويتحدث الشاعران "أدونيس" و"أنسي الحاج" بثقة وحماس فيجعلان من قصيدة النثر "أعظم شكل أمكن بلوغه"، ويرفع أدونيس النثر فوق منزلة شاعر النظم بكثير ويقول "فشاعر الوزن منسجم يقبل بقواعد السلف ويتبناها، بينما شاعر النثر متمرد ورافض"، وتشكك د. الجيوسي في هذا الرأي قائلة "ويبدو هذا على شيء من الادعاء، إذ يصدر عن كاتب هو نفسه يصرُّ على كتابة الكثير من شعره موزوناً". (ص693) وتنقل د. الجيوسي عن الناقدة الأديبة خالدة سعيد رأيها في هذا النوع من الشعر، وهو أن كتابة الشعر في قالب النثر أصعب من كتابة الشعر المنظوم فـ"الشعر مَزلق خطر لا ينجو منه إلا الشعراء الموهوبون وحدهم". (ص 697).وفي حديث د. الجيوسي عن الصور الشعرية تقول إن السياب لم ينس قط تفاصيل طفولته وبواكير شبابه "وهو في هذا يختلف كثيرا عن شعراء مثل أدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال الذين يبدو أنهم قد ولدوا بالغين بلا أدنى أثر من تلك الاكتشافات الغريزية في أيام الطفولة التي تعطي الحياة أولى تجاربها الصادقة النقية، فشعر السياب يزدهي بمشاهد من تلك الأيام الأولى، بما فيها من إثارة ولوعة عميقة سببها موت أمه المبكر، وكان مقدراً لذكرى ذلك الموت أن تظل تراوده فيسجلها بأسلوب يفطر القلب حتى أكثر من مأساة مرضه القاتل وانتظاره البطيء المريع للموت في نهاية حياته القصيرة". (ص 765).وتقف الباحثة عند شعر خليل حاوي محللة فتقول: "شعر حاوي كشعر أدونيس، ترفده الأفكار، وهو صوت المفكر المثقف الذي يعالج التجربة ويفسرها بمعادلاتها الفكرية لا الوجدانية، ويغلب أن تكون القصيدة، كما في "جنيّة الشاطئ" و"ألعازر عام 1962"، مبنية على فكرة رئيسة، يدعمها شيء من التجربة الفعلية وتغذيها عاطفة قوية يستطيع الشاعر استحضارها". ثم تهاجم د. الجيوسي، في شعر خليل حاوي الصور، التي تقول إنها تنفر القارئ لهذا الشعر، فتقول: "لكن أكبر مثلبة في شعر حاوي هي كثرة اعتماده على الصور المنفرة جدا، وقد سبق وصفها والحديث عنها، فهو لا يكف عن إغراق شعره باستعارات تعبر عن معاني الخراب والفساد والنفور، وينتج من ذلك شعر عصبي شديد التوتر، يبدو أحيانا كأن شاعره مصاب بالحمى، كما نرى في هذين المثالين:وأخاف من كبريت صاعقةيفجّر فيهما ضحك الجنونوربما انشق ضمير الصمت عن شمس بلا ضوءوحمى أنجم محمرّة يغزلها الجنونوربما توّجك الجنونلا بأس من وجود الغضب في الشعر، لكنه في شعر حاوي يبدو مبالغا فيه، وهذا عيب مؤسف، قد يسارع فيبعد عنه القارئ الذي قد يتقبله في قصيدة واحدة، لكن هذا الهياج إذ يسري في تضاعيف دواوین کاملة قد يجعل القارئ يضيق به". (د. الجيوسي، ص 768).وتقف د. الجيوسي أخيراً عند الأسطورة في الشعر العربي الحديث، فتلاحظ أن الشاعر أدونيس "يجد في الفوضى والقلق واليأس وخيبة جيل بأكمله سببا يناسب الموت القرباني الذي يجلب الخلاص فتستعيد الحياة قوتها وتركيزها. وقال بعضهم إن احتراق العنقاء يرتبط في ذهن الشاعر أول الأمر باحتراق والده حتى الموت وتؤكد خالدة سعيد، زوجة الشاعر أهمية هذه الحادثة وأثرها المستمر في ذهن الشاعر".وعن تأثر شعراء الحداثة بالشاعر الإنكليزي "توماس إليوت" وقصيدته الشهيرة "الأرض اليباب" (The Waste Land) تقول "قصيدة الأرض اليباب تعليق نقدي على الحياة الغربية المعاصرة... العمى والخدر الذي أصاب الوعي الخارجي المعاصر، وما فيه من عقم ووهن وخواء وجدب". وتضيف الباحثة أنه "منذ مطالع الخمسينيات عندما كتب السياب رائعته "أنشودة المطر" وحتى أوائل الستينيات كان الشعراء العرب يشيرون دوما الى التشابه بين جدب الحياة العربية بعد كارثة فلسطين عام 1948 وجدب الأرض في أساطير الخصوبة التي لا ينقذها من اليباب الشامل سوى الموت وسفك الدماء، شيء يشبه هطول المطر على أرض أنهكها الجفاف" (ص 798).في ختام هذه "الجولة الشعرية" منذ عام 1945 أو 1948، لا بد أن نلاحظ ونتذكر أن الشعر العربي الحديث، المتمرد على القوافي والأوزان، أو الطامح إلى ذلك، قد انغمست جذوره في نكسة 1948، مدفوعا بغضب جماهيرها وانقلابيتهم، وأينع بين خرائب النكسة عام 1967، وما شقت في نفوس الجماهير من أخاديد وما غيرت في عقول المفكرين والمبدعين من آفاق ومشاعر وتوجهات.في عام 1970 كتبت د. الجيوسي عن مستقبل الشعر العربي الجديد ما يلي: "لا شك أن الشعر العربي يمر اليوم بمرحلة حاسمة من التجريب الحاد، وثمة تجارب أكثر جذرية أتوقع لها أن تحدث". وفي عام 2000 كتبت: "كل شيء في الحياة العربية الراهنة يحفل بالحركة والتغير الدينامي، ومع أن عرب اليوم يتجهون حتما نحو التكنولوجيا، إلا أن الشعر لا يزال يقوم بدور مهم في ثقافتهم، ويحس المرء أن الشعر سيبرهن من جديد على أنه أهم وسائل التعبير في حساسية أدبية تتغير بسرعة. (ص 825).وإذا كان العرب اليوم متجهين حتما نحو التكنولوجيا، فما مدى الاعتماد مثلا على الكمبيوتر في الإبداع الشعري، وما قواعد هذا الشعر الجديد؟