مبارك العدواني ووقفة وفاء
التقيته مصادفة قبل أشهر في منطقة الأندلس خارجاً من بيته الجديد، ترجل من سيارته يحمل عصا، سألته ماذا بك، أجاب "ما زلنا شباباً، جاءني كورونا وتعافيت منه والحمدلله" ودعته على أمل اللقاء، بعد أن استذكرنا أيام العمل في "القبس" وتحدثنا سريعاً عن حال الصحافة ونصحني بقوله، "لم تعد الصحافة تطعم خبزاً يا صديقي". مبارك العدواني فيه من صفات الرجولة والوطنية ما يكفي أن يشار إلى تجربته وتاريخه المهني.. في المواقع التي عمل فيها، كان نظيف الكف والسمعة، اجتهد ولكل مجتهد نصيب، أعطى بلده بإخلاص، تعب على نفسه ولم يتكئ في مساره الوظيفي على قبيلة أو حزب أو نائب، بل تدرج في مواقع المناصب بكفاءته والخبرات التي اكتسبها في مسيرته الحياتية. ابن الإعلام وصف ينطبق عليه، صعد السلم درجة درجة مارس مهنة البحث والكتابة وهو على مقاعد الجامعة، دخل العمل النقابي الطلابي من "الوسط الديمقرطي"، تدرب في تلك الفترة على المحاورة والتحدث وفتح الأبواب المغلقة، صاحب مبادرات متجددة، عداوته للبيروقراطية جعلته غير لصيق بالدرجة الوظيفية، بل كان تدرجه في المواقع التي يشغلها علامة على حيويته، وعندما دخل معهد الكويت للأبحاث العلمية، اتجه إلى التجديد والترقي في المنصب، ذهب إلى المكان الذي يمزج فيه بين تخصصه الأكاديمي والعمل الوظيفي، فالإعلام والعلاقات الدولية مكانه الرحب، وكان صاحب الاقتراح بإصدار مجلة "علوم وتكنولوجيا" ومدير تحريرها ومؤسسها.
كان على مسافة قريبة جدا من "صاحبة الجلالة" اختبرها على أرض الواقع دون حواجز، فعرف التقاليد والأعراف والأسرار والمصالح وهو منغمس في عمل إعلامي ذي طابع "علمي" حاول أن يوصله بالأسلوب الصحافي الشيق، نزل إلى المطبعة جلس مع المخرج الفني راجع المادة المكتوبة، هضم العملية التحريرية بشكل جيد. "بوحمد" ابن الإعلام بالدرجة الأولى، بنى هذه السمعة من جهده وتعبه وإنتاجه، لم يعتمد على أحد، بل كان صانع نفسه، وفي وسط من الأساتذة أمثال المرحوم الدكتور خلدون النقيب وأحمد الربعي وسعد بن طفلة والقائمين على جمعية الخريجين. كانت "القبس" الصحيفة التي احتضنته عندما أسندت إليه الإشراف على قسم المحليات بدعم من رئيس التحرير آنذاك الأستاذ محمد جاسم الصقر، ليشكل مبارك مع النقيب ثنائيا متناغما، كان لهما مجموعة من الأبحاث والدراسات تناولت قضايا اجتماعية وسياسية في العمق. منذ الثمانينيات عملنا سوياً في بعض المحطات لا سيما في مجالس الأبحاث، وكانت فترة غنية في تاريخ الصحافة الكويتية، زادها عشقاً أيام التحرير والرحلة التي جمعتنا به في الأسبوع الأخير من إطفاء حقل "البرقان" النفطي عام 1991. تلك الخلفية البحثية والإعلامية دفعته إلى تقديم شيء مختلف وهو عضو في جمعية الخريجين الكويتية، فقد شارك بإعداد ملفات اجتماعية واقتصادية وقدمها في حلقات تلفزيونية تحت اسم برنامج "قضايا وردود" وكانت من الإطلالات المتميزة التي عرفها المشاهد، نظراً لنوعية المحتوى الذي أعطاه. تجربته كوكيل لوزارة الإعلام، كانت أمراً آخر له ظروفه المختلفة تماماً عما سبقها فقد واجه العديد من الصعوبات بالرغم من الدعم الذي حظي به من الوزير سعد بن طفلة، وهما المتقاربان في التوجهات الفكرية ومن فئة شبابية همها الإصلاح والتجديد... لكن السنوات الأربع التي قضاها في "الإعلام الحكومي" انتهت إلى هجرانه والعزوف عن العمل الرسمي المقيد بضوابط لا تتوافق كثيراً مع قناعاته وأفكاره.ربما كانت محطته الأخيرة في بيت الأمم المتحدة بمشرف من المهام التي استوقفته، فقد شغل منصب مساعد الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمنسق المقيم للأمم المتحدة طيلة سنوات، كان فيها من خيرة العاملين في هذا الصرح الدولي.. استشعر في حينه غياباً كاملاً لتاريخ العلاقة بين الكويت والبرنامج الإنمائي، والذي كانت لي المساهمة في عمل دراسة توثيقية لتاريخ العلاقة بينهما.أستذكر في هذا المقام يوم خروج المرحوم الزميل مبارك العدواني من "القبس" إلى وزارة الإعلام بتاريخ 15 يونيو عام 1999 ولم يكن ذلك استثناءً فقد سبقه زملاء آخرون، كانت الصحافة إحدى الواجهات التي أطلوا منها إلى العالم الخارجي.. وكان واحداً ممن سبقوه ليتولوا مناصب أخرى في مجالات عامة. الرحمة للزميل مبارك العدواني، ذاك الإنسان الخلوق والحر، ولأسرته وحرمه وأنجاله خالص العزاء.