مع وضع الدولة الحالي وإقرار الحكومة بأهمية إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية لضمان استدامة المالية العامة، فإن المطلوب أيضاً هو إعادة النظر في كل ما يعتبر من المسلمات التي لا غنى عنها، ومنها كثرة الأجهزة الرقابية وكثرة الإجراءات التفتيشية على مختلف الأنشطة الاقتصادية، وكثرة المطالبات بزيادتها وتشديد إجراءاتها بحجة محاربة الفساد.يقول المثل «كل شي زاد عن حده ينقلب ضده»، ويمكننا رؤية ذلك في مختلف مناحي الحياة. فقد نجد في مؤسسة ما كثرة في الاجتماعات المطولة، حتى لو اعتقد أغلب المشاركين فيها أن أكثرها مضيعة للوقت، وسنجد في الغالب استمرار تلك الاجتماعات بنفس الوتيرة والعدد، بحيث يتحول الاجتماع من أداة تخدم المؤسسة إلى رمز مقدس تكون المؤسسة في خدمته! وكذلك بالحياة البرلمانية، وضع الآباء المؤسسون الاستجواب كسؤال مغلظ وأداة إصلاح، لكنها مع الزمن تحولت تدريجياً لأداة للانتقام وتصفية الحسابات وأحد مظاهر صراع أجنحة الحكم، وبذلك أصبح البرلمان في خدمة الاستجواب بدلاً من أن يكون الاستجواب في خدمة البرلمان وتطلعات الناس والإصلاح، وساهم ذلك في جعل المنصب الوزاري طارداً لكثير من الكفاءات التي لا ترغب في أن تكون ضحية هذا الوحل السياسي.
وكذلك الأمر بالنسبة للرقابة، فهوس حماية المال العام ورقابة سوق العمل وحماية المستهلك جعلنا نتوسع في الأجهزة الرقابية والتفتيش بشكل مبالغ فيه حتى باتت هذه الأجهزة سبباً في تعطل وتخريب بيئة الأعمال وتعقيد الإجراءات، مما ساهم في هروب الاستثمار الأجنبي وتأخير المشاريع. فهل قلّ الفساد مع كل هذه الأجهزة والإجراءات أم زاد؟ وقد ساهمت هذه المبالغة في فتح أبواب أخرى للفساد مثل فساد الابتزاز وسوء استخدام السلطة، خاصة مع تفنن كل جهة في خلق العراقيل والإجراءات. اسألوا أصحاب الأعمال- خصوصاً المتعلقة بالأغذية- عن معاناتهم الكبيرة بسبب غطرسة وابتزاز المفتشين من مختلف الوزارات والهيئات. واسألوا المهندسين الشرفاء المشرفين على المشاريع في الوزارات كيف يستغل العديد من المهندسين الفاسدين سلطتهم في التكسب غير المشروع من المقاولين، لدرجة سخريتهم من المهندس الشريف الذي يُنعَت بأنه «ما يعرف يشتغل»! وهذا أمر طبيعي لأن السلطة المطلقة مفسدة، والمفارقة أننا قد نجد هؤلاء أنفسهم يشتكون من الفساد في «تويتر»!وحتى ديوان المحاسبة يتدخل في كثير من الأحيان في أمور فنية لا يفقه فيها شيئاً، وهذا أيضاً طبيعي؛ لأن تقييم عمل المحاسب يكون غالباً حسب كمية الملاحظات التي ينتجها حتى لو لم تكن هناك ملاحظات تستحق التسجيل، ولذلك تجده يحاول اختلاق شيء من لا شيء فقط ليصنع البطولات أمام مسؤوليه. والمفتش أيضاً- حتى لو كان شريفاً- نجده تحت ضغط تسجيل المخالفات، ولذلك يضطر أحياناً لاختلاق مخالفة من لا شيء، وآخرها ما حدث مع مطعم شاكر.والخطير أيضاً في كثرة هذه الأجهزة الرقابية هو احتمال استخدام العلاقات فيها للضرر بمنافسين في سوق معين أو تشويه سمعة مسؤول بسبب خلافات شخصية، وهذا بالضبط ما حصل مع عميد كلية الطب السابق الذي رفعت هيئة مكافحة الفساد بلاغاً ضده تم حفظه لاحقاً بعد أن تبين أنه بلاغ كاذب وسخيف من مصدر لديه خصومة شخصية معه، واستغل علاقته القريبة مع أحد قياديي الهيئة السابقين لتقديم هذا البلاغ، وبذلك أصبحت «مكافحة الفساد» مشاركة في فساد تشويه سمعة شخصية أكاديمية مرموقة ونزيهة! في كتابه الرائع «Talking to Strangers» يتحدث المفكر مالكوم غلادويل عن حجم الأخطاء التي نرتكبها في تعاملنا مع الغرباء. ومن بين ما تطرق له هو كيفية استمرار بعض المجرمين في ارتكاب جرائمهم لزمن طويل بالرغم من وجود بعض العلامات التي كانت من المفترض أن تكون واضحة للعيان، وسبب ذلك أن الكثيرين افترضوا حسن النية أو ما أطلق عليه غلادويل «default the truth». وبالرغم من أن القارئ قد يستنتج أنه من المفترض أن نقدم سوء النية على حسنها، فإن غلادويل استنتج العكس، وهو أننا كبشر نريد من الناس أن يفترضوا حسن النية، فبدونها لا يمكن للمجتمع المدني أن يعمل ويتقدم. ولذلك، نجد المشاكل الكبيرة التي يعانيها المجتمع الأميركي مع الشرطة، وكثرة قتل الشرطة لمدنيين عزل لأتفه الأسباب بسبب ثقافة الشك المسيطرة على عقلية الشرطة، وما يصاحبها من آثار اجتماعية سيئة. ولو تأملنا قليلاً لوجدنا أن هذا بالضبط ما نعانيه، فهوس الرقابة والتفتيش خلق مجتمعاً جامداً لا يستطيع التقدم إلى الأمام بسبب ثقافة الشك وسوء النية، فنجد المسؤولين يخافون من اتخاذ قرارات مهمة خوفاً من طغيان المحاسبة وتهمة الفساد، ولذلك يتم شربكة مختلف الجهات حتى في اتخاذ أتفه القرارات، ليتم تعطيلها بسبب محاولة الجميع حماية أنفسهم من المساءلة، فصرنا ندور في دوامة وضع العصى في الدولاب، لأنه بات أسهل شيء على المسؤول هو عدم اتخاذ القرار، بينما يتم محاربة من يعمل ويؤدي واجبه. وهذه الثقافة تسللت أيضاً للمجتمع، فاشتغل عامة الناس مخبرين في «تويتر»، يتصيدون الكلمة على المواطن والمقيم ليحرضوا أجهزة الدولة عليه، وطبعاً وزارة مثل «الداخلية» ترحب بمثل هذا التحريض، لأنه يساهم في زيادة تسلطها على حياة الناس، ويشجعها على ممارسة المزيد من التعسف وفرد العضلات على أتفه الأسباب. وحتى نواب مجلس الأمة مشاركون فاعلون في هذه الظاهرة المريضة، وآخرها مطالبة نائب (بروفيسور) بالتحقيق ومحاسبة المسؤولين في التلفزيون عن مقطع صغير من فيلم كرتون يتم فيه تجسيد أحد الأنبياء، وهي أصلاً مسألة فقهية محل اختلاف بين العلماء! واقتراحاتهم مليئة بعقوبات السجن على كل صغيرة وكبيرة. قد يتساءل القارئ: وهل الحكومات المتعاقبة تؤتمن على المال العام مع قلة الرقابة؟ الجواب هو: طبعاً لا، لكن ما أحاول تبيانه هنا أن كل هذه الإجراءات الرقابية لم توقف السرقات الكبرى ولا الألاعيب التي تحاك تحت الطاولة لتنفيع هذا وذاك، وفي المقابل فتحنا أبواب فساد أخرى كما أوضحنا، بحيث صار الفساد مجتمعياً ويشارك فيه الجميع من أعلى الهرم لأسفله، وتعطل البلد في حين سبقتنا دول الجوار في كل المجالات. فانقلبت الآية وصرنا نحن من يخدم الرقابة، بدلاً من أن تكون هي في خدمتنا! ولا حل للخروج من هذه الدوامة إلا بتغيير جذري في مفهوم إدارة الدولة، فيجب الاطلاع على تجارب الدول المتقدمة مثل الدول الاسكندنافية المعروفة بالشفافية وقلة الفساد، وهل لديها هذا الحجم الكبير من التفتيش على الأنشطة الاقتصادية والأعمال كما هو الحال لدينا أم لا؟! ثم يجب تغيير دور الدولة من مهيمن على الاقتصاد ومشغل للخدمات إلى منظم لها فقط، وذلك بالخصخصة الذكية والتوسع في مشاريع الشراكة، وتقليل حصتها في الشركات العامة إلى نسب تعفيها من رقابة ديوان المحاسبة. حينها ستتحرك العجلة وتتحسن بيئة الأعمال وتقل الحاجة لهذا الكم الكبير من الأجهزة الرقابية. أما إذا استمررنا في التمسك بنموذج ثبت فشله في إدارة الدولة، فسنستمر في إضاعة الوقت والتدهور إلى أن نصل للهاوية!
مقالات
وجهة نظر: طغيان الرقابة زاد الفساد!
05-08-2021