ميركل تفضّل روسيا على الولايات المتحدة في «نورد ستريم 2»
في عالم سياسة الطاقة بألمانيا... التاريخ يعيد نفسه حرفياً!
يتكلم منتقدو مشروع «نورد ستريم 2» عن وجود حلول أخرى كثيرة كي تحصل ألمانيا على الغاز الطبيعي، منها الطريق الشرقي الراهن عبر أوكرانيا أو بيلاروسيا وبولندا، أو عبر تركيا من جهة الجنوب، أو على شكل غاز طبيعي مُسال من الغرب يتم إرساله على متن سفن قادمة من الولايات المتحدة.
قبل أسابيع قليلة من استحقاق انتخابي محوري في ألمانيا، تجاهل المستشار الألماني الاحتجاجات الصاخبة في أوروبا الشرقية وعقد اتفاقاً بارزاً لإنشاء خط أنابيب غاز تحت بحر البلطيق، وكان متوقعاً أن يقوي هذا المشروع نفوذ الرئيس الروسي الحذق في مجال أمن الطاقة في أوروبا.قد تبدو هذه الأحداث مشابهة لما حصل في منتصف يوليو 2021 لأن التاريخ يعيد نفسه فعلاً في مجال سياسة الطاقة في ألمانيا، فقد حصل المشهد الآنف ذكره في بداية سبتمبر 2005، وكان المستشار الألماني غيرهارد شرويدر حينها يوشك على خسارة نفوذه أمام عالِمة فيزياء مولودة في ألمانيا الشرقية واسمها أنجيلا ميركل، حين استضاف احتفالاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في برلين لعقد اتفاق حول مشروع خط أنابيب عُرِف لاحقاً باسم "نورد ستريم".لم يحضر بوتين إلى برلين في الأسبوع الماضي للاحتفال بالاتفاق الذي عُقِد بين ميركل والرئيس الأميركي جو بايدن للسماح بتنفيذ المرحلة الثانية من مشروع "نورد ستريم 2"، لكن بما أن روسيا هي المستفيدة الأساسية من هذا الاتفاق، كان يُفترض أن يحضر الرئيس الروسي، لكنّ ميركل اتصلت ببوتين في مطلق الأحوال، وذكر الكرملين في بيان له: "أشاد الرئيس الروسي بقوة ولاء الجانب الألماني في ما يخص إتمام المشروع التجاري الذي يهدف إلى تقوية أمن الطاقة في ألمانيا".
يوشك خط الأنابيب على الانتهاء، لكنه يواجه حتى الآن معارضة قوية من الكونغرس الأميركي ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، يعطي الاتفاق السياسي الأخير بين ميركل وبايدن زخماً كافياً لإنهاء بناء المشروع على الأرجح، وعلى غرار خط أنابيب "نورد ستريم" الأصلي الذي أُنجِز في عام 2011، سينقل "نورد ستريم 2" الغاز على مسافة 1200 كلم تحت بحر البلطيق، وهو يبدأ خارج سانت بطرسبرغ مباشرةً وينتهي في الساحل الشمالي الألماني.تصل السعة السنوية الجماعية لِخطَّي الأنابيب المستعملَين في المشروع إلى 110 مليارات متر مكعب من الغاز تقريباً، وهما سيسمحان لروسيا بتجنب المرور بطرقات برية في أوكرانيا، مما يُضعِف برأي النقاد العتبة التي تبرر تكثيف تدخّل موسكو في المنطقة، كما حصل مثلاً عند ضم شبه جزيرة القرم أو احتدام الحرب المتواصلة في شرق البلاد، لكن لا يناقش الكثيرون (خارج ألمانيا على الأقل) الفكرة القائلة إن المشروع سيزيد اتكال ألمانيا وأوروبا معاً على الغاز الروسي.اعترضت برلين على هذه المخاوف منذ سنوات، إذ لا فرق برأيها بين وصول جزيئات الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر أوكرانيا أو تحت بحر البلطيق، لكن لا يحتاج أحد إلى شهادة دكتوراه في علم الفيزياء (مع كامل الاحترام لميركل) كي يعرف أن أقصر مسافة بين أي نقطتَين هي خط مستقيم.سيكون الفرق بين خطوط أنابيب "نورد ستريم" والبنية التحتية الرديئة التي تمرّ عبر أوكرانيا راهناً (تصل سعتها النظرية إلى 160 مليار متر مكعب) مشابهاً للفرق بين أسلاك الألياف البصرية وأسلاك النحاس، فقد أصبح خط الأنابيب الأوكراني، بعد خمسة عقود على استعماله، راشحاً لدرجة أن يحتاج إلى 6 مليارات يورو لإصلاحه وفق تقديرات المحللين.في المقابل، تُعتبر خطوط الأنابيب المستعملة في مشروع "نورد ستريم" متطورة، علماً أنها تكلّف مُجتمعةً 17.5 مليار دولار على الأقل، كذلك، تستطيع شركة "غازبروم" الروسية المملوكة للدولة أن ترسل الغاز إلى ألمانيا بأسرع وقت وبكلفة متدنية ومن دون إحداث أي مشاكل. (وافقت "غازبروم" على دفع رسوم الترانزيت إلى أوكرانيا حتى عام 2024، وقد وصل مجموعها السنوي إلى مليارَي دولار تقريباً في السنوات الأخيرة).يحبذ قطاع الصناعة الألماني هذا المشروع لأنه بأمسّ الحاجة إلى مصادر طاقة قليلة الكلفة وجديرة بالثقة، وفي السنة المقبلة، ستتخلى ألمانيا عن آخر مفاعل نووي فيها، وهي تُخطط لحظر إنتاج الكهرباء عبر استعمال مصادر الفحم بحلول العام 2038، لكن رغم تصاعد نسبة الطاقة المتجددة في كهرباء ألمانيا، يبقى مجموعها أقل من 50%، مما يعني أن البلد مضطر لسد ثغرات كبيرة في قطاع الكهرباء ويحتاج في هذه العملية إلى الغاز الطبيعي الذي لا يلوّث البيئة بقدر الفحم (يُستعمل الغاز أيضاً لتدفئة 45% من الأُسَر الألمانية).تقدّم هولندا من جهتها نحو 30% من إمدادات الغاز إلى ألمانيا (تؤمّن روسيا والنرويج ثلث الإمدادات الألمانية تقريباً ويتكل البلد على مصادر محلية لتأمين الكمية المتبقية التي يحتاج إليها)، لكنها تُخطط لوقف استخراج الغاز بحلول عام 2030، مما يزيد أهمية مشروع "نورد ستريم".يتكلم منتقدو المشروع عن وجود حلول أخرى كثيرة كي تحصل ألمانيا على الغاز الطبيعي، منها الطريق الشرقي الراهن عبر أوكرانيا أو بيلاروسيا وبولندا، أو عبر تركيا من جهة الجنوب، أو على شكل غاز طبيعي مُسال من الغرب يتم إرساله على متن سفن قادمة من الولايات المتحدة.لكن لا تُعتبر تلك الخيارات كلها بسيطة أو جديرة بالثقة بقدر "نورد ستريم" من وجهة نظر ألمانيا.يبدو أن ألمانيا ستبدي استعدادها إذاً للتخلي عن أوكرانيا وتجازف بزعزعة علاقاتها مع حلفائها الأساسيين، بدءاً من وارسو وصولاً إلى واشنطن، للحصول على غاز قليل الكلفة. لكن ما الذي يدفعها إلى فعل ذلك؟كُتِبت مقالات كثيرة حول السحر الغريب الذي تمارسه روسيا على جزء كبير من النُخَب الألمانية، أو ما يُعرَف بمعسكر "المتعاطفين مع الروس"، لكن تبرز عوامل عملية أخرى لتبرير مواقف شرويدر وميركل. عُيّن شرويدر، بعد أسابيع على رحيله من دار الاستشارية الألمانية في عام 2005، رئيساً لمشروع "نورد ستريم" وقد أصبح هذا العضو في الحزب الديمقراطي الاجتماعي ثرياً بفضل منصبه الجديد على مر السنين. برأي منتقديه، ضحى شرويدر بسمعته حين وافق على العمل لصالح بوتين، لكنّ هذا التوجه منحه على الأقل مرحلة تقاعد مريحة.احتجّت بولندا وأوكرانيا على الاتفاق حينها، لكن لم تكن مواقف الرفض في تلك الفترة قوية بقدر ما هي عليه اليوم، ففي عام 2005، اعتبر الكثيرون في الغرب بوتين شريكاً محتملاً لهم، ولم يكن الرئيس الروسي قد اتهم الولايات المتحدة بعد بمحاولة ترهيب روسيا عبر حلف الناتو، وهو لم يشن حرباً ضد جورجيا ويضم شبه جزيرة القرم إلا بعد مرور سنوات.داخل ألمانيا، لم يكن مشروع "نورد ستريم" مثيراً للجدل، وكان قرار شرويدر بالعمل لصالح بوتين بعد أسابيع قليلة من تنحيه من منصب المستشار الألماني مفاجئاً للكثيرين طبعاً، لكن لم تكن روسيا تُعتبر تهديداً على البلد، وعلى مر العقود خلال الحرب الباردة، كانت ألمانيا تشتري الغاز الروسي (رغم الاعتراضات الأميركية في معظم الأوقات)، ثم أصبحت الحرب الباردة جزءاً من الماضي، لكنّ الأسباب التي تدفع ميركل إلى دعم "نورد ستريم" تبقى أكثر تعقيداً من ذلك ولا يمكن فهمها من دون العودة إلى أحداث عام 2011.في تلك السنة، غداة كارثة فوكوشيما النووية في اليابان، قررت ميركل تغيير قرارها السابق بإطالة صلاحية المفاعلات النووية الألمانية، وكانت ألمانيا حينها تمرّ بمرحلة انتقالية تُمهّد لاستعمال مصادر الطاقة المتجددة، واعتبر عدد كبير من الخبراء أن البلد يحتاج إلى الطاقة النووية لفترة أطول تزامناً مع زيادة إنتاج طاقة الرياح والطاقة الشمسية.لكن صُدِم الألمان بكارثة فوكوشيما لدرجة أن تسارع ميركل إلى الموافقة على عَكْس الخطة التي أقرّها شرويدر وحزب "الخضر" في عام 2000 بهدف تعطيل آخر مفاعل نووي في ألمانيا بحلول عام 2022، في تلك الفترة، كانت الطاقة النووية تشكّل نحو خمس عمليات توليد الكهرباء في ألمانيا.أدى إلغاء قرار التمديد إلى نشوء السيناريو الذي حذرت منه ميركل وقطاع الصناعة الألمانية قبل عشر سنوات، فحصل نقص في خيارات الطاقة مقبولة الكلفة، ومع اقتراب انتهاء عملية التخلص التدريجي من المفاعلات النووية وتراجع جاذبية الفحم بسبب ارتفاع أسعار الكربون، بلغت تكاليف الكهرباء في ألمانيا أعلى مستوياتها منذ عشر سنوات، علماً أنها تُعتبر من الأعلى كلفة في العالم أصلاً.في هذا السياق، أعلن وزير المالية أولاف شولتس، وهو مرشّح الحزب الديمقراطي الاجتماعي لمنصب المستشار الألماني، في خطابٍ له في الشهر الماضي: "يجب أن تتراجع كلفة الكهرباء في ألمانيا كي تتمكن شركاتنا من منافسة الآخرين على الساحة الدولية"، وتتّضح أهمية مشروع "نورد ستريم" في هذا المجال بالذات.لا وجود لأي مودة بين ميركل وبوتين، فقد تصادم الاثنان في مناسبات متكررة على مر السنين بسبب تجاوزات الزعيم الروسي في الأراضي المجاورة ومشاكل أخرى، لكن من الواضح أن ميركل مقتنعة بأهمية الغاز الروسي لتلبية حاجات ألمانيا في قطاع الطاقة.عملياً، يتعلق السبب المنطقي الوحيد الذي يفسّر استعداد المستشارة الألمانية للمجازفة بعلاقة برلين وواشنطن باقتناعها بأهمية المشروع استراتيجياً، وإذا استفاد بوتين مما يحصل، فلا بأس بذلك.قبل أيام سأل أحد الصحافيين ميركل إذا كانت نادمة على قرارها بالتخلي عن الطاقة النووية، فأصرت على أنها لا تشعر بالندم، لكنها أضافت أن ألمانيا ستضطر للاتكال على الغاز في المستقبل المنظور نتيجة هذه الخطوة.قالت ميركل: "لا يمكننا أن نتخلى عن الطاقة النووية والفحم، كما طالب البعض، ثم نتخلى عن الغاز الطبيعي في أسرع وقت ممكن. إنه أمر مستحيل".ما كان بوتين ليعبّر عن هذا الواقع بطريقة أفضل منها!* ماثيو كارنيتشنيغ
ماثيو كارنيتشنيغ
خط الأنابيب «نورد ستريم 2» يوشك على الانتهاء لكنه يواجه معارضة قوية من الكونغرس الأميركي ومعظم دول الاتحاد الأوروبي
السبب المنطقي الوحيد الذي يفسّر استعداد المستشارة الألمانية للمجازفة بعلاقة برلين وواشنطن يتعلق باقتناعها بأهمية المشروع استراتيجياً
السبب المنطقي الوحيد الذي يفسّر استعداد المستشارة الألمانية للمجازفة بعلاقة برلين وواشنطن يتعلق باقتناعها بأهمية المشروع استراتيجياً