الصين لن تتعاون مع الغرب... و«كورونا» زاد الوضع سوءاً!
دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاً بسبب رؤيتها السياسية في الشرق الأوسط، حيث جعلتها الحرب على الإرهاب تخوض صراعاً مكلفاً طوال عشرين سنة في أفغانستان والعراق لمحاربة الإرهاب الإسلامي، وتزامنت هذه الحقبة من التدخل الأميركي مع صعود الصين، ويقال إن بكين وجدت فرصة ذهبية حينها لتحقيق مصالحها في آسيا أولاً، ثم على مستوى العالم أجمع.أدركت الصين في مرحلة معينة أنها تحتاج إلى إنشاء مؤسساتها العالمية الخاصة التي لا تخضع للقواعد والترتيبات الغربية، بل تعكس خصائص غير غربية وتتماشى مع المصالح والأولويات الصينية، لكن نظراً إلى طبيعة العالم المترابط بسبب العولمة، لم تتمكن الصين من تحقيق هذا الهدف من دون إيذاء مصالحها الخاصة، بعبارة أخرى، بقيت البدائل المتاحة أمام الصين قليلة، إذا وُجِدت، مع أنها لم تكن راضية على الاقتراحات التي قدّمها الغرب.لكن هذه الظروف تغيرت كلها مع ظهور شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة بعد عام 2010، فسمحت للصين بكسر احتكار الشركات الغربية ومنحت المواطنين الصينيين أنظمة صينية التصميم، لكن كان تدخّل الحكومة الصينية في تلك الشركات وإصرارها على تسخير قوة التكنولوجيا لتلبية حاجات الصين ومواطنيها والحزب الشيوعي الصيني طبعاً من أهم العوامل التي أوصلت بكين إلى طليعة القطاع التكنولوجي المتطور، فتزامنت هذه الأحداث أيضاً مع انتقال السلطة من هيو جينتاو إلى شي جين بينغ ويعرف الجميع ما حصل في المراحل اللاحقة.
تستحق القناعات والرؤية العالمية التي يحملها الرئيس شي جين بينغ الاستكشاف حتماً لجمع الأدلة المرتبطة بسلوك الصين السياسي وسياستها الخارجية، لكن يجب أن يعترف أي تقييم دقيق أولاً بأهمية الحزب الشيوعي الصيني والعلاقة التكافلية التي تجمعه بالرئيس شي جين بينغ، ويمكن تشبيه الرابط بينهما بالعلاقة بين الشفاه والأسنان، وانطلاقاً من هذه الفكرة، يبدو شي جين بينغ نتاجاً مؤكداً للحزب الشيوعي الصيني، مما يعني أنه سيدافع عن الحزب الحاكم بأي ثمن، وذلك يعني أيضاً أن يدافع عن صورة الحزب المقدسة (هو معصوم من الخطأ)، وأعماله الخيرية ومعارفه المطلقة وصورته القوية (الحزب موجود في كل مكان ويملك قدرات شاملة). يُعتبر تأليه الحزب الشيوعي الصيني بهذا الشكل في الصين مصدراً لسلطة شي جين بينغ المطلقة. لولا الحزب الحاكم، لكان الرئيس الصيني سيصبح مجرّد سياسي وبيروقراطي عادي يأخذ سلطته وشرعيته من الصراعات الفئوية والخلافات السخيفة. في الوقت نفسه، لا يمكن أن يتمسك الحزب الشيوعي الصيني بصورته المقدسة من دون شخصية "إلهية" قوية مثل شي جين بينغ لتجسيد قناعاته ورؤيته العالمية في الحياة اليومية.تحتاج الصين إذاً إلى الحفاظ على صورة الحزب الحاكم ورئيسها، لذا ليس مفاجئاً أن تحاول نشر الفكرة القائلة إنها دولة استثنائية وتبقى مختلفة عن الغرب وأفضل منه بأشواط، إذ يتعلق أحد الأسباب بإصرار الولايات المتحدة على اعتبار النظام الدولي الليبرالي الغربي ونشر الديموقراطية جزءاً من المصلحة العالمية. لطالما أزعجت هذه المقولة بكين لأن القوى الغربية لا تكف عن انتقاد نظامها الاستبدادي نتيجة انتهاكاته لحقوق الإنسان، وإذا استمر هذا العجز الديموقراطي، فستبقى صورة الصين الدولية ملطّخة دوماً، مما قد يؤثر على صورة شي جين بينغ المقدسة والحزب الشيوعي الصيني عموماً. في النهاية، لا يمكن إعطاء طابع مقدّس لأحد إلا إذا كان صالحاً وقوياً. تملك الصين من جهتها القوة لكنها تفتقر إلى المبادئ الصالحة، مما يعني أن مطالبتها بمكانة القوى العظمى تبقى جزئية، ولن يكون هذا الوضع كافياً بالنسبة إلى الرئيس الصيني والحزب الحاكم.
الصين لا تثق بالغرب
انطلاقاً من هذه الخلفية، ليس مفاجئاً ألا تثق الصين بالولايات المتحدة، حيث تدرك بكين أن واشنطن تريد كبح مسارها للحفاظ على تفوّقها الدولي، كما أنها تعتبر إدارة جو بايدن الراهنة وتشديدها على نشر الديموقراطية تهديداً وجودياً على رؤيتها السياسية العالمية. تتماشى انتقادات الغرب لبكين حول التطورات في شينغيانغ وهونغ كونغ والتِبَت مع خطاب الحزب الشيوعي الصيني حين يقول إن الولايات المتحدة والغرب يريدان تحدّي سيطرة الحزب على السلطة وإعادة تشكيل الصين على صورة الغرب. تعني عقلية الحصار هذه أن بكين لن تجد على الأرجح أي قواسم مشتركة مع الولايات المتحدة على مستوى المصالح الاستراتيجية الأساسية، ونتيجةً لذلك، يعتبر الحزب الشيوعي الصيني تصريحات واشنطن والغرب محاولة لتوسيع الشرخ بينه وبين مواطنيه، مما قد ينسف صورته المقدسة ويُضعِف قيمة قائده العظيم، علماً أن البلد بذل جهوداً شاقة لبناء هذه الصورة على مر السنين.على صعيد آخر، جاء فيروس كورونا ليؤجج الاضطرابات بين الصين والولايات المتحدة نظراً إلى حجم المسائل التي أصبحت على المحك. بما أن الصين تريد طرح نفسها كدولة مسؤولة ومتفوقة على الغرب، لم توفر بكين أي جهد لترويج لقاحاتها حول العالم، لا سيما في الدول التي تعجز عن شراء لقاحات "فايزر" أو "مودرنا" لأسباب متنوعة، وفي حين يفضّل معظم وزراء الخارجية تكليف خبراء الصحة بتقييم النواحي العلمية للقاحات، كانت وزارة الخارجية الصينية في طليعة الحملة التسويقية للقاح الصيني. أصبحت تداعيات هذه المقاربة واضحة الآن: تعتبر بكين دبلوماسية اللقاح أداة أساسية لإقناع الدول الأخرى بحُسن نواياها وصداقتها، وإلى جانب دبلوماسية "الذئب المحارب" التي تستعملها الصين لدحض الادعاءات الظالمة برأيها من جانب الدول غير الصديقة، تنوي بكين استعمال المعايير الأخلاقية لإثبات تفوّقها على الغرب.لتحقيق هذه الغاية، يعرف القادة الصينيون على الأرجح أن الدول المجاورة لهم تحمل نظرة سلبية عن بلدهم ويدركون أهمية معالجة هذا الوضع، وخلال جلسة دراسة للمكتب السياسي للحزب الحاكم في يونيو 2021، دعا شي جين بينغ قادة الحزب إلى تحسين اتصالاتهم الدولية لإصلاح صورة البلد التي تضررت بسبب فيروس كورونا والفوز بمعركة الخطابات مع الولايات المتحدة وحلفائها. إنه عامل محوري بالنسبة إلى الصين، وتحديداً على مستوى العلاقات العابرة للمضيق التي بلغت أدنى مستوياتها في الوقت الراهن، علماً أن احتمال اندلاع صراع بين بكين وتايبيه يبقى وارداً دوماً، وإذا اندلعت الحرب فعلاً، فستضطر الصين لتأدية دور الضحية، فتنسب الصراع مثلاً إلى تعنّت تايوان أو تدخّل الولايات المتحدة في شؤونها الداخلية. لن ترغب معظم دول المنطقة على الأرجح في الانجرار إلى أي صراع محتدم (باستثناء اليابان)، لذا لن تتمكن الصين من إقناع الدول المجاورة لها بقضيتها العادلة إلا إذا نجحت في طرح صورة إيجابية عن نفسها، وهذه المقاربة ستزيد الضغط الإقليمي والدولي على الولايات المتحدة لمنعها من الانتشار العسكري ميدانياً وستعزل تايبيه عن أي دعم خارجي محتمل.يستحق حدثان أساسيان تسليط الضوء عليهما: أولاً، الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني وقد احتفلت بها بكين في 1 يوليو الماضي، حيث جَمّلت الحكومة الصينية خصائصها وطرحت نفسها كأهم منقذة للوطن. ثانياً، الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في فبراير 2022. في ما يخص الحدث الأول، أثبت الحزب الشيوعي الصيني نجاحه المحلي، بما في ذلك انتصاره على وباء كورونا، ويتّضح هذا الانتصار في مشهد اجتماع عشرات آلاف الناس في ساحة "تيانانمن" للاحتفال من دون وضع أي أقنعة على وجوههم، مما يثبت قدرة الحزب الشيوعي الصيني على حُكم الصين. في ما يخص الحدث الثاني، سيحاول الحزب الحاكم إخبار العالم بقصة الصين القوية والعظيمة التي تستطيع تجاوز الاحتمالات التاريخية وأي ضغوط جيوسياسية أخرى لبلوغ المكانة التي وصلت إليها، بما في ذلك تحوّل بكين إلى أول مدينة في التاريخ تستضيف الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية. سيُحسَب هذا الإنجاز لمصلحة شي جين بينغ وقد يشكّل حدثاً لافتاً في إطار رؤيته لتجديد الوطن، كذلك قد تُرسّخ هذه التطورات ادعاءات الحزب الشيوعي الصيني الذي يزعم أنه ناجح في حُكم الصين وقادر على تحسين حياة المواطنين الصينيين، ونظراً إلى حجم المسائل التي أصبحت على المحك، قد ترغب الصين في التصرف بشروطها الخاصة ورسم مسارها بنفسها، مع الغرب أو من دونه!* بنجامين هو