خلاف مستمر في أوروبا وواشنطن
خط الأنابيب الروسي الجديد في ألمانيا وتكاليفه السياسية الباهظة!
كان العمل في ميناء "ساسنيتز- موكران" في جزيرة "روغين" على ساحل البلطيق في ألمانيا يسير بأقصى سرعة، حُمِّلت أنابيب زرقاء داكنة على متن سفينة الشحن "أوسلاب شيريميتا" التي يصل طولها إلى 90 متراً وكان العلم الروسي يرفرف وراء منصتها، إذ تعود هذه السفينة إلى شركة الطاقة الروسية "غازبروم".ذكر الموقع الإلكتروني الخاص بتعقب السفن أن السفن الروسية كانت تنتظر الأنابيب على بُعد 90 كلم شرقاً، في جنوب جزيرة "بورنهولم" الدنماركية، حيث ستتولى سفينة "فورتونا" تركيبها، وتُركّب هذه السفينة الجزء الأخير من خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2". سبق أن اكتمل تركيب أول أنبوب من أصل اثنين مُخطط لهما، ومن المنتظر أن يتم تركيب الأنبوب الثاني حين يتحسن الطقس قليلاً، وبعد سنوات من التخطيط والبناء، قد يتمكن خط الأنابيب من إيصال نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا سنوياً.
زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن للمرة الأولى منذ وصوله إلى الرئاسة الأميركية، ويُعتبر الخلاف القائم حول مشروع "نورد ستريم 2" عائقاً كبيراً، وهو يحتاج إلى حل لإعادة ترسيخ التقارب بين البلدين غداة جمود العلاقات الدبلوماسية خلال عهد دونالد ترامب.يحمل بايدن، على غرار سلفه، نفوراً شديداً من هذا المشروع لأنه يربط بين برلين وموسكو ولأن الأميركيين يريدون بيع الغاز الأميركي، لكن على عكس ترامب، يفضّل الرئيس الراهن إقامة علاقة قوية مع ألمانيا، فهو يحتاج إلى الألمان لدعم سياساته الصارمة ضد الصين، وهذا ما دفع بايدن إلى رفع العقوبات ضد الشركة المسؤولة عن "نورد ستريم 2" في شهر مايو الماضي، ولا يزال هذا التدبير قائماً في الوقت الراهن على الأقل.لكن ميركل تدرك أن هذا الموضوع يلقي بثقله على العلاقة الثنائية، وتعليقاً على هذه المسألة، يقول دبلوماسي ألماني: "يُعتبر "نورد ستريم 2" عاملاً تخريبياً، لذا يجب أن تثبت برلين لواشنطن أنها جادة في رغبتها في إقامة علاقات حسنة بين البلدين".لكن ما نوع التنازلات التي تستطيع تقديمها؟ تتفاوض واشنطن وبرلين في ظل ضغوط فائقة، فقد سافر مستشار السياسة الخارجية في فريق ميركل، جان هيكر، إلى الولايات المتحدة في منتصف شهر يونيو ليحاول إيجاد حل. يقضي أحد الحلول المحتملة بتقديم تعويض إلى أوكرانيا لأن الغاز الروسي لم يعد يعبر فيها، وتناقش برلين مسائل عدة، منها إقامة شراكة محتملة مع الحكومة في كييف حول إنتاج الهيدروجين، كذلك، يكثر الكلام حول تعهد ألمانيا باستثمار المليارات لتحديث شبكة الغاز الأوكرانية التي أصبحت في حالة سيئة.لكن سبق أن تلاشى جزء من النوايا الحسنة التي تحملها الحكومة الأميركية الجديدة تجاه ألمانيا نتيجة إصرار المستشارة الألمانية على بناء خط الأنابيب المثير للجدل.لم يتضح بعد السبب الذي يجعلها تتمسك بالمشروع رغم انتقادات حزبها وشركاء ألمانيا في واشنطن، حتى أن البعض يشكك أصلاً بمنافع "نورد ستريم 2" بشأن إمدادات الغاز في ألمانيا، كذلك، تكثر مواقف الرفض القوية من داخل الاتحاد الأوروبي. وواجهت المستشارة الألمانية الرفض من داخل حزبها الخاص، ودعا نوربرت روتغن، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني وعضو حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي"، إلى وقف بناء مشروع "نورد ستريم 2" بعد تسميم السياسي الروسي المعارض ألكسي نافالني، حتى أن خط الأنابيب كان مثيراً للجدل منذ فترة طويلة داخل فريق ميركل. تقول مصادر مقرّبة من المستشارة الألمانية إن ميركل، خلال اجتماعاتها المغلقة، صرّحت في مناسبات متكررة بأن وزير الاقتصاد الألماني السابق سيغمار غابريال استعمل جميع صلاحياته لمتابعة مشروع خط الأنابيب، وحين أجرت بروكسل مراجعة للتأكد من شرعية "نورد ستريم 2" بموجب القانون الأوروبي، أعلنت ميركل أنها ستقبل بالنتائج، وفي المقابل مارس غابريال ضغوطاً قوية على المفوضية الأوروبية لمنع وقف المشروع.قد تؤدي المشاعر السلبية التي سببها بناء خط الأنابيب إلى تراجع النفوذ الألماني في أوروبا، فقد أدركت ميركل هذا الواقع حديثاً خلال قمة الاتحاد الأوروبي في أواخر شهر يونيو. لقد فاجأت الدول الأخرى حين اقترحت مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقد اجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرة الأولى منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، لكن تلك المساعي فشلت حين رفضت بولندا ودول البلطيق تحديداً ذلك الاقتراح، إذ يقول دبلوماسي في الاتحاد الأوروبي: "تُعتبر ألمانيا اليوم مقرّبة من روسيا بسبب مشروع نورد ستريم 2".لم يكن ما حصل مفاجئاً بالنسبة إلى راينهارد بوتيكوفر، الخبير بسياسات الاتحاد الأوروبي في حزب "الخضر"، فهو يقول: "لا تستطيع ألمانيا أن تؤدي دوراً قيادياً فاعلاً في الاتحاد الأوروبي إذا كانت تسعى إلى تحقيق أهداف تتعارض مع مصالح حلفائها والدول المجاورة لها، لكن برلين تتجاهل هذا المبدأ في مشروع "نورد ستريم 2" بطريقة فادحة، ويمكننا أن نقول إذاً إن الحكومة الألمانية تطبّق سياسة "ألمانيا أولاً".أصبح اكتمال خط الأنابيب شبه مؤكد الآن، حيث تتعلق المسألة الأساسية راهناً بتحديد مدة استمرار عمله بعد تشغيله، خصوصا أن حزب "الخضر" الذي سيشارك على الأرجح في الحكومة الألمانية المقبلة بعد الانتخابات الفدرالية في الخريف يرفض هذا المشروع بشكلٍ قاطع. كذلك، يأمل أعضاء من حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" الذي تقوده ميركل أن يتمكنوا من مقاطعة المشروع بعد الانتخابات، وكتب رودريش كيسويتر، خبير في السياسة الخارجية في الكتلة البرلمانية التابعة للاتحاد الديموقراطي المسيحي، بياناً حول "مسائل روسيا" لطرح نقاط النقاش الخاصة بالحملة الانتخابية أمام البرلمان الاتحادي، فذكر أن "نورد ستريم 2" هو في المقام الأول مشروع جيوسياسي تريد روسيا استعماله قبل كل شيء لاستبعاد أوكرانيا من محطات عبور الغاز إلى أوروبا، فبرأيه، يفتح خط الأنابيب المجال أمام موسكو "لزيادة الضغوط السياسية والعسكرية على أوكرانيا من دون تهديد تجارتها للغاز مع أوروبا الغربية".حتى لو كان رئيس "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" والمرشّح لمنصب المستشار الألماني، أرمين لاشيت، يتبنى موقفاً مشابهاً لميركل، إلا أنه ترك جميع الخيارات واردة، وخلال نقاش حديث مع مرشحَين آخرَين على منصب المستشار، تكلم لاشيت حول الاتفاق على قواعد معينة مع بوتين وذكر أن المشروع قد يتوقف في أي وقت إذا استعمل الرئيس الروسي خط الأنابيب ضد أوكرانيا، حتى لو انتهى المشروع بالكامل، وفي هذه الحالة ستنهار القاعدة التجارية التي يقوم عليها خط الأنابيب، لأن "الوضع بهذه البساطة" حسب قوله!* ماركوس بيكر وفرانك دومان وكونستانتين فون هاميرستاين ورالف نوكيرش وغابريال رينالدي وكريستوف شولت