من صيد الخاطر: الفاروق القدوة
«حكمت فعدلت فأمنت ونمت يا عمر»، هذا ما قيل عن الفاروق، رضي الله عنه وأرضاه، وقد مر يوماً في سوق المدينة المنورة فرأى شيخاً مسناً يسأل الناس طلباً لما يسد رمقه، فاقترب منه الفاروق وسأله من أين أنت يا شيخ؟ فرد المسن: أنا يهودي أسأل الناس الصدقة لأفي لكم الجزية ولأنفق الباقي على أهلي، فقال له عمر متألماً: ما أنصفناك يا شيخ، أخذنا منك الجزية، شاباً ثم ضيعناك شيخاً.أمسك الخليفة عمر بيد ذلك اليهودي وأخذه إلى بيته وأطعمه مما يأكل، ولم يكتفِ عمر بذلك، فأرسل إلى خازن بیت المال وأمره بأن يفرض لهذا المسن وأمثاله من محتاجين راتباً شهرياً يغنيهم ويغني أهاليهم عن السؤال، وأن يوقف عنهم الجزية.وأراد الفاروق عمر تفقد جيوشه المرابطة في الشام، فركب راحلته وتوجه بها إليهم، وما إن وصل الى حيث أراد حتى توجه الى خيمة قائد جيش المسلمين الذي عرف كيف يختاره بنفسه، الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجراح، ليستريح فيها من عناء السفر الطويل.
كان وصوله وقت الغداء فسُئِل أيأتونه بطعام مما يأكله الجيش أم من طعام قائدهم؟ فقال لهم، وهو يضمر في نفسه شيئا، هاتوا لي هذا وذاك، فأتوه أولا بطعام مما يأكله عساكر جيشه، فإذا به لحم ومرق وثريد، فتعجب الفاروق قائلاً أهذا طعام الجيش؟ فقيل له: أنَ نعم يا أمير المؤمنين، فقال هاتوا لي الآن طعام قائد الجيش، فجاؤوا له بكسرات من الخبز اليابس، وقليل من اللبن، تأثر عمر الفاروق كثيراً، وقال: صدق رسول الله عندما سماك أمين هذه الأمة، وأردف قائلا: غيرتنا الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة.إنه أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري القرشي، صحابي جليل، وقائد جيش، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، قال عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم: إن لكل أمّة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وقال أبو بكر الصديق يوم سقيفة بني ساعدة: لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح.رحم الله أولئك الرجال، لقد انتصروا وأقاموا أمة مجيدة عندما تحلّوا بالعدل والنزاهة والتواضع، وولوا أمور رعيتهم للقوي الأمين، فحين يحل العدل، يحل الإنصاف، فالعدل أساس الملك، فطوبى لمن تأسى بالخلفاء الراشدين، وأصحاب رسول الله.