عطفاً على ما قلته في مقالين سابقين في 24 و31 يوليو الماضي، حول جيل لا يعرف تاريخ وطنه الإنساني النشأة والنزعة، وأن قانون الوحدة الوطنية، لا يمكن قصر تطبيقه على من يدعو إلى كراهية أو ازدراء الكويتيين وحدهم، لأن تخصيص عموم أحكامه يصم القانون بأنه يدعو إلى كراهية الآخر وازدرائه، وهو لا يليق بدولة الكويت، دولة القانون، وإمارة الإنسانية، فضلا عن مخالفة هذا التخصيص لمبدأ شرعية التجريم والعقاب، وهو مبدأ دستوري، والوقوع في حومة مخالفة المادتين 29 و49 من الدستور.

وقد رأيت في مقال اليوم طرح ثلاث قضايا أساسية استكمالا للدراسة التي تناولتها في المقالين السابقين، القضية الأولى هي انتقاص هذا التخصيص من مبدأ سيادة الدولة، والقضية الثانية هي مبدأ إقليمية قوانين الجزاء، والقضية الثالثة هي إغفال هذا التخصيص لقاعدة أصولية في تفسير القوانين بوجه عام، وهي أن الأحكام تدور وجوداً وعدماً مع علتها لا مع حكمتها.

Ad

القضية الأولى: الانتقاص من سيادة الدولة

فالمادة الأولى من الدستور تنص على أن الكويت دولة مستقلة ذات سيادة، وقد قيد الدستور الدولة في إبرام معاهداتها بالحفاظ على حقوق السيادة في المادة (70)، وقوانين الجزاء في العالم كله هي مظهر من مظاهر سيادة الدولة، بل هي جوهر هذه السيادة، في حفاظها على التزام الناس بالخضوع للنظام العام، وقد خاطب الدستور في الحفاظ عليه جميع سكان الكويت في المادة (49).

فلا تتساوى قوانين الجزاء، وهي فرع من فروع القانون العام، بالقانون الخاص وفروعه المختلفة، والتي يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالف أغلب أحكامها، إلا أن هناك بعض أحكام هذا القانون التي تعتبر قواعد آمرة لا يجوز مخالفتها لتعلقها بالنظام العام، سواء في حماية الآداب العامة أو في حماية أطراف العلاقات التي يحكمها القانون الخاص.

في علم السياسة قد يضيق مفهوم الوحدة الوطنية عندما يتعلق الأمر بنبذ الخلافات السياسية بين الأحزاب والتكتلات السياسية المتصارعة على الحكم، عندما تتهدد هذه الخلافات النظام السياسي في الدولة واستقراره، فهذه الخلافات هي شأن خاص بالمواطنين وحدهم، وأهل مكة أدرى بشعابها، أما عندما يخرج مفهوم الوحدة الوطنية من دائرة السياسة، أو من دائرة الأخلاق إلى دائرة التجريم والعقاب، بتأثيم الدعوة إلى الكراهية لأي فئة من فئات المجتمع أو ازدرائها، أو التحريض على العنف لتحقيق هذا الغرض، فإن مفهوم الوحدة الوطنية يتسع ليشمل كل من يقيم على هذه الأرض الطيبة، أيا كانت جنسيته، لأن الأمر يكون متعلقا بالحفاظ على أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم، وهو واجب الدولة فضلا عن واجبها بعدم المساس بكرامة الناس، ويعزز هذا ما نص عليه الدستور في المادة (29) من أن الناس متساوون في الكرامة الإنسانية.

لذلك فإن القول بإباحة كراهية الوافدين وازدرائهم، وجعل هذا الفعل المؤثم جزائيا والمعاقب عليه- بموجب قانون الوحدة الوطنية- فعلا مباحا لكل كويتي أو للوافدين في كراهية بعض فئاتهم لبعضها الآخر، ينتقص من سيادة الدولة على أرضها، بالحفاظ على النظام العام فيها، بمدلولاته الثلاثة، ومنها الأمن العام.

القضية الثانية: إقليمية قوانين الجزاء

وهو المبدأ المطبق في العالم كله، وفي كل قوانين الجزاء التي تسوده، ويتفرع هذا المبدأ من مبدأ سيادة الدولة على أرضها وإقليمها البري والبحري والجوي، وهو ما أخذت به الكويت في قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960، فيما تنص عليه مادته الحادية عشرة من أنه: "تسري أحكام هذا القانون على كل شخص يرتكب في إقليم الكويت وتوابعها جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه، وتسري على كل شخص يرتكب خارج إقليم الكويت فعلاً يجعله فاعلاً أصليا أو شريكا في جريمة وقعت كلها أو بعضها في إقليم الكويت"، وتسري أحكام هذه المادة على كل القوانين الجزائية الأخرى، باعتبارها مكملة لهذا القانون.

ويقول شراح قانون الجزاء إن مبدأ إقليمية قانون الجزاء أو العقوبات في العالم أجمع يعني أن هذا القانون ينطبق على كافة الجرائم التي ترتكب على إقليم الدولة سواء كان الجاني أو المجني عليه فيها وطنيا أو أجنبيا، وسواء كانت الجريمة قد هددت مصالح الدولة صاحبة السيادة على الإقليم أو هددت مصالح دولة أجنبية.

فالعقاب يشمل الجاني في جريمة الدعوة إلى كراهية أو ازدراء أي فئة من فئات المجتمع، سواء كان الجاني كويتيا أو مقيما، والعقاب يكون متوجبا قانونا، بموجب أحكام قانون الوحدة الوطنية، ولو كانت الفئة المجني عليها بالدعوة إلى كراهيتها أو ازدرائها، فئة من فئات الوافدين، فهدف القانون هو تحقيق السلام الاجتماعي، على هذه الأرض الطيبة، وهو ما يتفق وشرع الله في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وأصر سيدنا عمر، رضي الله عنه، على القصاص من جبلة بن الأيهم أحد أمراء الغساسنة، لصفعه عبداً فكسر أنفه وكان الأمير جبلة ورهط من قبيلته يطوفون الكعبة، عندما داس العبد على رداء جبلة فصفعه الأخير، وطلب الأيهم من سيدنا عمر أن يمهله بعض الوقت ثم سافر ورهطه في جنح الظلام حتى يتجنب قصاص عمر، وارتد وقبيلته عن الإسلام.

القضية الثالثة: تفسير الأحكام يدور وجوداً وعدماً مع علتها لا مع حكمتها

وهي قاعدة من قواعد أصول الفقه، يضرب فيها الفقهاء مثلا، بإفطار المسافر في رمضان، فرخصة الإفطار مباحة للمسافر، بإجماع الفقه، ولو لم تتوافر المشقة في السفر، وهي الحكمة من تشريع هذه الرخصة، لأن تطبيق الأحكام يدور وجوداً وعدماً، مع علتها وهي السفر، باعتباره الوصف الظاهر المنضبط في تطبيق هذه الرخصة ولو لم تتحقق مشقة السفر.

والعلة في تطبيق أحكام قانون الوحدة الوطنية، هي ارتكاب فعل من الأفعال التي نصت عليها المادة الأولى من هذا القانون، أيا كانت الحكمة من تجريمها ومن عقاب مرتكبها، سواء أخذنا بالمفهوم الواسع للوحدة الوطنية أو بمفهومها الضيق الذي يقول به البعض، لأن هذه الوحدة في الحالتين، لا ترقى إلى أن تكون علة الأحكام الواردة في القانون، بل الحكمة من تطبيقها والأحكام تدور وجوداً وعدماً مع علتها لا مع حكمتها.

كما أنه لا وجه للقول بأن صدور المرسوم بقانون رقم 19 لسنة 2012 في شأن الوحدة الوطنية، كان لضرورة اقتضته، وهي الضرورة التي أقرتها المحكمة الدستورية لصدور هذا القانون في غيبة مجلس الأمة، وليس الأداة التشريعية الأصيلة، وهي إقرار المجلس لهذا القانون، وذلك لقرب موعد الانتخابات النيابية، وما يعتريها من صراعات فئوية وقبلية، لأن العبرة في تطبيق الأحكام بعمومها، ولا عبرة بخصوص السبب.

وقد جاء قانون الوحدة الوطنية بأحكام عامة ومطلقة في عقاب كل من ارتكب فعلا من الأفعال التي نص عليها، فتسري هذه الأحكام على عمومها وتجري على إطلاقها، طالما لم يرد في هذا القانون ما يخصص من عمومها أو يقيد من إطلاقها.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المستشار شفيق إمام