حسب الرصيد المالي

نشر في 08-08-2021
آخر تحديث 08-08-2021 | 00:18
 حسن العيسى نصف الصفحة الأولى، والصفحة الأخيرة كاملة، وفي عدد من الصفحات الداخلية إعلانات عزاء من أهل المتوفى أو من أصدقائه أو من شركات كان يملكها... هذا أمر طبيعي، عندنا إظهار الحزن والعزاء معاً كإعلان صحفي متى كان المتوفى (أو المتوفاة) من أهل الثراء، وله حظوة اجتماعية عادة في البلد، أما إذا كان من جماعة البسطاء، فيكفيه خبر صغير في تطبيق عزاء الكويت وانتهينا.

الأمر مختلف في ناحية، ومتشابه مع أحوالنا العربية من ناحية أخرى، عند الفيلسوف المكسيكي الراحل هورغي بورتلا، حسبما ذكر محرر فلسفته الكاتب كارلوس سانشيز في كتاب "تفكك الجماعة... هورغي بورتلا والفلسفة السياسية".

بورتلا ومعه الأديب الشاعر أوكتافيو باث وعدد من الباحثين اللاتينيين يرون أن فكرة الموت عند الغربيين وشمال أميركا تختلف عن المكسيكان وأميركا الجنوبية (هسبانك)، ففي الولايات المتحدة يرون الموت كحقيقة يجب إخفاؤها، الموت ظاهرة من المفترض السكوت عنها وتكميمها حتى لا تضطرب أحوال الحياة التي تكشف تمركز الذات حول نفسها، في المكسيك الناس تتعايش مع الموت دائما، الموت عندهم مختبئ خلف فكرة الحياة ذاتها، مثلاً الكاتب إرغانا كتب أن الحياة دائماً على وشك الانقطاع، وعلى ذلك لا يجب أن نأخذها بجدية (موقف مشابه للوجوديين وأدباء العبث)، الأميركان والغربيون ينظرون إلى الحياة للأمام، أما المكسيكان والهسبانك فينظرون إليها للخلف، وتبقى عندهم الحياة ذكرى في غرفة الذكريات، فالموت بالعنف اليومي في المدن والقرى مسألة عادية جداً في المكسيك.

لكن لماذا حصر الفيلسوف بورتلا قضية الموت حسب المكان، المكسيك وأميركا الجنوبية بالمغايرة للشمال الأميركي والدول الأوروبية، لماذا لم يحددها حسب الطبقة أو بين الذين يملكون والذين لا يملكون، فالأولون يتشبثون بالحياة، ويتجنبون الكلام عن الموت، لأن الحياة عندهم جميلة، ورفاهية، بينما البؤساء، لا يرون في الحياة غير البؤس والشقاء، فسيان كانوا أحياء أو أمواتاً.

في عالمنا العربي، إذا نحينا جانباً المرضى العقليين الساديين مثل الدواعش ومن على شاكلتهم من الاستشهاديين في عبادتهم الصنمية للموت، لنا أن نسأل كيف يري، مثلاً، السوري المشرد الذي تعايش مع العنف والدمار سنوات طويلة فكرة الموت؟ وكيف يراها اللبناني البائس؟ وكيف ينظر إليها اللبناني صاحب الاقطاعيات الكبيرة والاستثمارات الضخمة التي لا تخلو من الفساد السياسي؟ كيف يفهم ابن غزة الموت؟ وكيف نتقبله هنا بدول الخليج؟ أو لنسأل أنفسنا: كيف يرى "البدون" المعدم الموت؟ وكيف يراه المواطن الملياردير؟... القلق من الموت أو اللاكتراث نحوه يحدده الرصيد في البنك وليس المكان.

حسن العيسى

back to top