وصل لبنان إلى مشارف الارتطام الكبير، حيث تفصله أسابيع قليلة عن مواجهة استحقاقات متعددة بلا قفازات، وبلا مآثر إيجابية لسياح ومغتربين اندفعوا إليه لقضاء فصل الصيف، فكان لهم تأثير كبير في تحريك الدورة الاقتصادية وتوفير بضعة دولارات للتداول في الأسواق.

الشهر المقبل سيغادر المغتربون والسياح، وسيتوقف تدفق الدولار باستثناء المورد الوحيد المتبقي، وهو المرتبط بالتكافل الاجتماعي، إذ يحوّل العاملون في الخارج مبالغ مالية لذويهم. عدا ذلك لا مورد آخر للدولار، بينما الاحتياطي الإلزامي المتبقي لدى المصرف المركزي، وهو عملياً «أموال المودعين»، يتآكل بفعل استمرار سياسة الدعم على المحروقات المفتقدة في الأسواق، والأدوية التي يُحرم منها اللبنانيون.

Ad

سيكون لبنان، الشهر المقبل، على موعد مع نقاش جدي حول رفع الدعم، لأن لا قدرة نقدية لدى المصرف المركزي بتوفير مستلزمات استمراره. وعملياً، بدأ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة باتخاذ خطوات تقنين الدعم بفعل الأمر الواقع، إلا أنه يتعرض لضغوط من قبل القوى السياسية، لأجل الاستمرار بسياسة الدعم. وعليه، يقع اللبنانيون بين أطراف ذات حسابات متضاربة ومتناقضة، سياسة رياض سلامة النقدية، والنهج السياسي المتبع من القوى السياسية الأخرى، التي تريد محاسبته وتضغط عليه من هذه النقطة لإجباره على تنفيذ ما تريد.

وفي حين كانت إقالة سلامة من منصبه ومحاكمته مطلبين أساسيين للرئيس ميشال عون، ورفضتهما قوى أخرى، يستمر عون بالضغط قضائياً، من خلال فتح ملفات له والتلويح الدائم بإمكانية توقيفه. لكن كل هذه الإجراءات لا تبدو أنها قادرة على تغيير واقع اللبنانيين المرير، خصوصاً أن لا رؤية اقتصادية ومالية واضحة تشكل بديلاً لما هو قائم.

الوصول إلى استحقاق رفع الدعم، أو تسعير المواد الأساسية بالدولار ستكون لهما انعكاسات سلبية شعبياً ومعيشياً، والواقع القائم ينذر بزيادة منسوب التوتر وصولاً لانفجار اجتماعي ينتج عن دخول لبنان في دوامة لا مخرج منها، وسط غياب حلول الداخل والخارج، وسيكون لذلك انعكاسات طائفية سلبية، خصوصاً في ظل انقسام هائل بين الطوائف حول الرؤى والسياسات المتبعة، وصراع بارز على التوجهات في السياسة الخارجية إقليمياً ودولياً. وتشكل أحداث الأسبوعين الفائتين مؤشراً على خطر داهم لن يبقي الأزمة مقتصرة على الهموم المعيشية وتوفير أدنى المقومات، بل ستمسّ جوانب أمنية أو السلم الاجتماعي. ومن المؤشرات على ذلك أحداث متعددة، بدأت مع اشتباكات خلدة بين العشائر العربية و«حزب الله»، وردّة فعل أهالي بلدة شويا الدرزية على إطلاق الحزب لصواريخ باتجاه إسرائيل من أحراجهم. والحدث الثالث والبارز أيضاً هو التوتر السياسي الآخذ لبعد طائفي بين «حزب الله» والبطريرك الماروني بشارة الراعي، الرافض لممارسات الحزب، ودعوته لاحترام الهدنة، ومناشدته للسلام. هذا الموقف دفع الحزب إلى شن حملة ضده ستؤسس للمزيد من الانقسام بين الطرفين، خصوصاً منذ أن دعا الراعي إلى عقد مؤتمر دولي بلبنان، وأطلق دعوته للحياد المرفوضة من الحزب.

هذه الوقائع تضع «حزب الله» أمام مشاكل سياسية متعددة مع مختلف المذاهب والطوائف، فهو ينظر إليها بأنها محاولات لتطويقه ومحاصرته، بينما معارضوه يعتبرون أن ما يجري هو ردة فعل طبيعية، رفضاً لسياسته ولتحميله مسؤولية الانهيار.

بعيداً عن هذه السجالات المستمرة، فإن المؤكد هو استمرار حالة الانهيار مع تطور فصولها في الأسابيع المقبلة، على وقع ارتفاع منسوب التوتر الطائفي، إذ إن الصراع الحقيقي هو صراع خيارات، ففي الوقت الذي يعلن فيه أمين عام الحزب حسن نصرالله وقوف لبنان إلى جانب إيران، وأنه جزء من هذا المحور، يخرج آخرون، على رأسهم البطريرك الماروني ومطران بيروت للروم الأرثوذكس إلياس عودة بمواقف اعتراضية، ويدعون لعدم الانغماس بسياسة المحاور، وسط تجدد الدعوات للالتزام بالهدنة الموقعة مع إسرائيل سنة 1949.

وبناء على هذه الوقائع، يتشكل تصور بأن مشكلة لبنان أبعد بكثير من قدرة أي حكومة قيد التشكيل على حلها، لا بل أكثر من ذلك، فما يجري يشير إلى أن متطلبات المرحلة والحسابات المتناقضة بين القوى المختلفة تفرض استمرار الوضع القائم بلا حكومة، خصوصاً أن الصراع أصبح يتركز حول المرحلة المقبلة في لبنان وما فيها من استحقاقات انتخابية تفرض ارتفاع منسوب الشعبوية، تحضيراً لاستحقاق الرئاسة، وبالتالي فإن عون لن يتنازل حالياً لمصلحة حكومة اختار رئيسَها المسلمون ولم يوافق عليه المسيحيون، وذلك بمعزل عن اللقاءات والمشاورات بينه وبين الرئيس المكلف نجيب ميقاتي. وهذا سيعطي بعداً طائفياً أعمق للانقسام السياسي القائم، فيبقى لبنان في دوامة صراع الطوائف.

منير الربيع