نالت المنظومة السياسية الحاكمة كمية من التحقير والإهانة لم ينلها أي عهد آخر في لبنان. قرأت مقالات من لبنانيين وخليجيين وعرب تباروا في تعرية «النموذج اللبناني» كما لم أقرأ من قبل، لم يبق أحد وإلا قذف زمرة الطبقة السياسية بأبشع التعابير وأقذرها، كل ذلك ولا حياة لمن تنادي؟ قلّة من تجرأوا على كتابة السيناريوهات وتقديم «وصفة» قد تصلح للخروج من القاع الذي سقط فيه هذا النظام الفاشل، ومع ذلك كأن شيئاً لم يكن، سمعوا بالأذن اليسرى وخرجوا من الأذن اليمنى. تحدثوا عن انقلاب عسكري يقصي «الزمرة الحاكمة والفاسدة» لانتشال البلد من الخراب الذي وصل إليه.. وأيضاً لم يكتب لهذا المخرج أن يرى النور وبقي مكتوماً وفي «غُبْ الطلب»، وحدثت المظاهرات ونزل الشعب إلى الشارع ورفع الشعار الكبير جداً «كلّن يعني كلّن» واستبشر الناس خيراً، صفقوا لهم وقالوا الحمدلله ها هي فرجتْ، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فانفرط عقد موجات التغيير السلمية وطال اليأس معظم «الجماهير الصامتة».
صرت تخجل من نفسك عندما يصار إلى الحديث عن لبنان وكيف «سقطت الصيغة» وبتنا محل تندر في بلاد العرب والخليج، هذا عدا التقريع الذي قيل بحق السياسيين والطائفيين وراكبي الموجة والمرتهنين للخارج، فلاعبو الدم في لبنان يتصرفون كأنهم ما فعلوا شيئا في تاريخهم، كما ينعتهم بذلك الكاتب العائد إلى وطنه بعد غربة ناهزت الخمسين عاماً وهو الزميل زهير ماجد، ففي مثل بلاد كهذه، ولدنا وعشنا وتحملنا دون أن ندري ما السبب الذي من أجله صمدنا فيها، وقدمنا لها أيضا أولادنا وأحفادنا، مع أن بلاداً كهذه يجب أن تغلق بالشمع الأحمر، وأن تطفأ فيها الشمس، كما هو لسان حاله وحالنا. فلا يكفي التغني بجمالها حسبما هي أغاني فيروز أو وديع الصافي أو صباح، فالكلمات المصنوعة من صدق تصبح كذبة حين تصطدم ببلاد من هذا النوع. ليس لي من عبارات التأسّي غير تلك الآهات والحسرة التي خرجت من عقل وضمير هذا الكاتب وغيره، ففي مثل هذه البلاد ضحكنا ولم نكتشف أن سر الضحكة كامن في التدريب على لغة الشفاه التي عليها أن تنسى حركة من حركاتها، أما القلب فكان مفجوعاً ومتألماً، ويا لها من سيرة وطن لعنة أن تعيش أكثر من خمسة عشر عاماً، وهي عمر الحرب الأهلية، في خطر أقله الموت المفاجئ، وقبلها أخطار وعلى مراحل، وبعدها ديمومة لا استقرار والقلق المنبعث من أجواء التوترات المتنوعة، وصولاً إلى فقدان الأعز في تاريخ المواطن اللبناني وهو المال من مصارف ظنوا أنها ملاذهم الأخير الحامية لحياتهم من المصاعب المستقبلية. هل اقترب الوقت أو حان أجله لنعترف أننا فشلنا في بناء دولة يعيش في أرجائها مواطنون لديهم الانتماء الفعلي أم أننا وصلنا متأخرين جداً بهذا الاعتراف، وكنا في حالة انبهار مخادع وضياع؟ ولماذا نجح اللبناني الفرد خارج وطنه وفشل في صنع «دولة» لا «وطن»؟ وكيف يمكن أن نقيس نجاح هذا اللبناني المنفتح على الآخر والمتعايش جبراً مع الأديان والطوائف الأخرى ولم يستطع أن ينتج دولة على مقاسه؟ عايشت وأنا لم أبلغ الثامنة من عمري «أول بروفة» حرب أهلية أيام حكم كميل شمعون، ولما كبرت شاباً وأنا في خضم الحروب المتنقلة والمختطفة، في العصر الفلسطيني أيام «النضال والثورة» والضربات الإسرائيلية المتلاحقة على رؤوسنا، إلى أن وقعت الحرب الأهلية عام 1975 لتدفعنا إلى خارج الوطن على أمل العودة بعد أشهر من اندلاعها، لكن الإطالة فيها جعلتنا بعيدين عنها، متشوقين إلى ترابها وطبيعتها وحرياتها، ثم نصحو مجدداً على «حروب الآخرين» في الساحة اللبنانية التي استمرأت الاقتتال والتناحر ولو كانا على حساب مستقبلنا ومستقبل البلد. لا أعرف وأنا في سن متقدمة، ماذا تبقى لنا بعد، وعلى من سنراهن في إنقاذنا من هذا المستنقع الذي أسهمنا في صنعه ونحن راضون؟! لست هنا في موقف الدفاع أو التبرير، لكنني كغيري من أبناء هذا «الوطن» الغيورين على بلدهم المختطف، لم يبق في ذاكرتنا شيء سوى الأمل والرجاء بأن يُبعَث طائر الفينيق كما تقول الأسطورة من جديد وينتشلنا من هذا السقوط المدوي أو نأتي بشعب آخر كما تحدثنا الشاعرة والمؤرخة اللبنانية عبير الريدان ونعطيه فرصة لإعادة البناء، وبعقد إيجار محدد المدة، ربما يكون بمقدوره حينذاك أن يستولد سياسيين جدداً يديرون شؤونهم بأنفسهم!
مقالات
لماذا نجح اللبناني كفرد وفشل في «صنع» دولة على مقاسه؟
12-08-2021