الحساب الختامي شهادة إخفاق للسياسات الاقتصادية
• الفشل يتخطى عجز المليارات ويناقض كل ما ورد في خطط التنمية
• تضخم مصروفات الرواتب والدعوم يعكس فشل سياسات تشغيل الشباب وعدالة التوزيع
قَدم الحساب الختامي للإدارة المالية للدولة للسنة المالية المنتهية في 31 مارس 2021، الذي نشرته وزارة المالية مطلع الاسبوع الحالي صورة واضحة لمجموعة من الاختلالات الاقتصادية والمالية التي تعانيها الكويت منذ سنوات، وانتهت العام الماضي بأكبر عجز فعلي بقيمة تجاوزت 10.8 مليارات دينار.غير أن بيانات الحساب الختامي تشير هذه المرة بصورة واضحة الى ان العجز الضخم ليس سوى نتيجة لانحراف مجموعة من السياسات المالية والاقتصادية والادارية افضت في النهاية إلى تسجيل اعلى معدلات العجز المالي بغض النظر عن تداعيات ازمة كورونا على الاقتصاد، إذ إن العجز المالي مستمر منذ عام 2015 ومتوقع استمراره حسب البيانات الحكومية الى 2025، وبالطبع يزداد حجمه او يقل وفقا لمعطيات اقتصادية او جيوسياسية او صحية متنوعة، كآفاق الطلب على النفط أو التطورات الأمنية والسياسية في المنطقة، او حتى ما تحمله جائحة كورونا من تطورات وتداعيات على اقتصادات العالم.
تعهدات واختلالات ومصروفات
ورغم كل تعهدات الدولة وخططها الرسمية في الإصلاح الاقتصادي وتعديل أوضاع الميزانية العامة فإن الحساب الختامي كشف اختلالات مالية ذات مخاطر اقتصادية سيكون أثرها اوضح على المدى الطويل، مثل الانفلات في المصروفات الفعلية والتي بلغت 21.3 مليار دينار بارتفاع 0.7 في المئة عن السنة الماضية وبوفر 862 مليون دينار (اي 3.8 في المئة) من المعتمد في الميزانية العامة لدولة الكويت للسنة المالية 2020/2021، وبـ 255 مليوناً اي 1.18 في المئة عن المعتمد في الميزانية المحدثة لنفس العام بعد تداعيات «كورونا».ومع ان «سنة الكورونا» يفترض انها خلت او خفضت من مصروفات تقليدية كالعلاج بالخارج او الدورات والمؤتمرات والمعارض والضيافة والمهمات التي تكلف الدولة مليار دينار تقريبا، فإن النتائج النهائية للحساب الختامي الفعلي لم تتضمن اثرا فعليا لقرار مجلس الوزراء في يونيو 2020 تكليف وزارة المالية بالتنسيق مع الجهات الحكومية كافة لتخفيض ميزانيتها بـ20 في المئة كحد ادنى، بالتوازي مع دراسة أسعار السلع والخدمات العامة وقيمة الدعومات. ورغم ان هذه الميزانية 2020/2021 بالذات تمت اعادة هيكلتها في سبتمبر الماضي بعد تداعيات «كورونا» على الايرادات النفطية ومجمل اوجه النشاط الاقتصادي بتخفيض سعر الاساس من 55 دولاراً للبرميل الى 30 دولاراً، ليرتفع العجز المفترض بعد تدهور اسعار النفط الى 14 مليار دينار الى جانب وقف الاستقطاع لصندوق الاجيال القادمة كي تتوفر بعض السيولة في المالية العامة للدولة، فإن هذه الإجراءات لم تواكبها سياسات ترشيد واضحة كان بالامكان اتخاذها، لاسيما في نطاق معالجة هدر الميزانية، والترشيد السليم للانفاق العام.الرواتب والدعوم
ولعــــل استحــــواذ نصـــيـــــب الرواتب والدعوم على 73 في المئة من الإنفاق العام يمثل شهادة على ضعف كفاءة السياسات الاقتصادية في الدولة، اكثر من كونه عبئا على مصروفات الميزانية، فتضخم الإنفاق على الرواتب وما في حكمها بقيمة 11.8 مليارات دينار يكشف عن محدودية قدرة الحكومة على توفير فرص عمل في القطاع الخاص او المشروعات الصغيرة او حتى الشركات الاجنبية العاملة في البلاد، فضلاً عن ان قيمة الدعوم البالغة 3.7 مليارات دينار تعبر عن غياب العدالة في صرف الدعومات ما بين المواطنين الذين تختلف حاجاتهم للدعوم وفقا لاختلاف مداخيلهم المالية ومستوياتهم المعيشية اذ لا يعقل ان يتم دعم الكهرباء والماء لشخص يملك بيته فقط بنفس درجة الدعم التي يحصل عليها شخص اخر يمتلك منازل متعددة معظمها بغرض المتاجرة والتأجير , فضلا عن ان بند الدعومات مثلا يخلط في قيمته الاجمالية بين الدعم الموجه للافراد والشركات والمصانع وغيرها من الانشطة التجارية، وهذا خلط قد تنتج عنه قناعات بل نتائج غير دقيقة. ولعل تجاوز اجمالي مصروفات الرواتب والدعوم لاجمالي الايرادات العامة بـ5 مليارات دينار يضع ما يعرف بالطبقة المتوسطة في الكويت تحت مخاطر دفع فاتورة الاخفاق الحكومي، خصوصا ان مختلف المقترحات والسياسات الحكومة تحمل المجتمع فاتورة الاخفاق بشكل مباشر في رفع اسعار البنزين، او غير مباشر بضعف مستوى الخدمات كالتعليم او الطرق او الصحة.الإيرادات غير النفطية والاستثماري
وتظل مسألة قلة الايرادات غير النفطية نقطة خلل اساسية تعبر عنها مختلف الميزانيات والحسابات الختامية فهي تمثل فقط 8.1 في المئة من حجم تمويل الميزانية، و16.4 من حجم الايرادات العامة، والتي تدهورت قيمتها مع انخفاض اسعار النفط , وهذه شهادة اخرى على ضعف كفاءة السياسات الاقتصادية، فهو من ناحية، البند الذي تتعهد الحكومة سنويا بتنميته لخفض لدرجة الانكشاف امام تقلبات اسعار النفط العالمية، ومن ناحية أهم يعتبر معياراً مهماً لكفاءة الاقتصاد غير النفطي، إذ إن الضرائب والرسوم كلما ارتفعت نسبتها في ميزانية أي دولة كانت مؤشراً على كفاءة أعمالها.ويكشف بند الإيرادات غير النفطية جانباً مهماً من شح الإيرادات الضريبية على الأعمال والشركات في الميزانية العامة، فضلاً عن مدى عدم عدالة أسعار إيرادات استغلال أملاك الدولة، وهذان البندان لهما قدرة، لو أعيد النظر فيهما، على تمويل الميزانية العامة بمئات الملايين من الدنانير سنوياً، مع لعب الدولة في المقابل دوراً أكبر في صناعة فرص الاستثمار وتسهيل بيئة الاعمال.ومثلت المصروفات الرأسمالية على المناقصات والمشاريع التي تعتبرها أدبيات الإدارة العامة من محفزات الانتعاش الاقتصادي 9 في المئة من الانفاق العام، وهو بند يمكن تطويره عبر طرح العديد من المشاريع والمناقصات من خلال قوانين الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتحقيق منافع اقتصادية مهمة، كتوفير فرص العمل للعمالة الوطنية إلى جانب خلق إيرادات ضريبية واستثمارية للمالية العامة.إخفاق وأرقام
ما يخبرنا به الحساب الختامي ليس مجرد ارقام عن عجوزات بمليارات الدنانير رغم اهميتها، ولكنه ايضا يخبرنا بما هو اشد، وهو إخفاق مختلف السياسات المكررة في خطط التنمية منذ سنوات طويلة كترشيد الانفاق او توظيف العمالة الوطنية او ضبط الدعوم او تنمية الايرادات غير النفطية او هيكلة الانفاق الاستثماري، مما يرفع تحديات المستقبل الذي سيكون أقله مرتبطاً بتراجع قيمة النفط كسلعة، وسط حديث اشد عن افول عصر النفط، في ظل تنامي التوجه العالمي إلى دعم استراتيجيات المناخ النظيف والسيارات الكهربائية واستثمارات الطاقة المتجددة، وهذه كلها قد لا تحل محل النفط كسلعة، لكنها ستأخذ حيزا من سوق الطاقة الذي تعتمد عليه الكويت بما يعادل 90 في المئة من إيراداتها السنوية.