منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في نوفمبر 1991، باتت المنطقة التي تمتد من أوروبا الوسطى إلى آسيا الوسطى تُعرَف على نطاق واسع باسم "مساحة ما بعد الحقبة السوفياتية"، لطالما طرحت هذه العبارة إشكالية معينة، وبعد 30 سنة على ظهورها، حان الوقت للتخلي عنها، إذ يوحي هذا المصطلح بدرجة من التماسك السياسي والاجتماعي والاقتصادي بين مجموعة متنوعة من الدول التي تشمل أوكرانيا، فأكثر ما يثير القلق هو احتمال أن تُشجّع تلك التسمية صانعي السياسة والناس خارج هذه المساحة الجغرافية على وضع تلك الدول كلها في خانة واحدة.

هذا النهج الاختزالي يخدم أهداف الكرملين الإمبريالية، إذ يبذل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قصارى جهده لنشر خطاب تاريخي مغلوط مفاده أن الأوكرانيين والروس يشكّلون "أمة واحدة"، ويُقال إن الجيش الروسي بات مُلزَماً بقراءة مقالته الأخيرة المؤلفة من 5300 كلمة حول هذا الموضوع، حيث يريد بوتين إعادة جمع دول الاتحاد السوفياتي السابقة والانقلاب على ما يسمّيه "أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، لكن برأي ملايين الناس في أنحاء المنطقة، لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي كارثة بل شكلاً من التحرير.

Ad

بعد عام 1991 مباشرةً، برز تاريخ مشترك بين الدول المنبثقة من دمار الاتحاد السوفياتي، لكن أهمية تلك التجربة المشتركة تتراجع نظراً إلى اختلاف المسار الذي اتخذته كل دولة منها خلال العقود اللاحقة، إذ يجب أن تتوقف الدول الغربية عن اعتبار تلك البلدان مجرّد مساحة مشتركة بين الدول بعد الحقبة السوفياتية، لكن إذا أصبح هذا البناء الجيوسياسي بالياً فعلاً، فما أفضل إطار عمل لاستبداله؟ وما التعديلات التي تحتاج إليها السياسة الخارجية في الولايات المتحدة والدول الحليفة لها لتغيير الوضع؟ في ما يخص أوكرانيا، يعني الاعتراف بالواقع الجديد ترسيخ مكانة البلد في محور الغرب، فقد حان الوقت كي تضع الولايات المتحدة وأوروبا خريطة طريق واضحة لأوكرانيا كي تتمكن أخيراً من الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.

يصادف هذا العام الذكرى الثلاثين لاستقلال أوكرانيا، إذ لم يَعِش ملايين الأوكرانيين الشباب ليوم واحد في الاتحاد السوفياتي وقد أنجب عدد كبير منهم الأولاد الآن، ولا تعني فكرة "الماضي السوفياتي المشترك" شيئاً لهم، علماً أنها بدأت تتلاشى أيضاً في أوساط الأجيال الأكبر سناً، لقد عاصر هؤلاء الشباب ثورتين: الثورة البرتقالية في عام 2004، وثورة الكرامة في عام 2014، فضلاً عن الحرب المستمرة مع روسيا، وبرأيهم لم تكسب أوكرانيا استقلالها يوماً لأنها كانت مستقلة دوماً.

ضد نطاقات النفوذ

في أوكرانيا وأماكن أخرى، ستنقطع العلاقات مع موسكو بغض النظر عن رأي بوتين وحاشيته، فتملك الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون إذاً فرصة لتصميم استراتيجية طموحة في المنطقة، فضلاً عن وضع سياسات واضحة تناسب ظروف الدول والكتل الفردية.

في ما يخص أوكرانيا وجورجيا، يجب أن يكون استكمال إجراءات الانتساب إلى حلف الناتو على رأس الأولويات، وفي هذا السياق، أعلن حلف الناتو بنفسه، في بيان قمة بوخارست في عام 2008، أن هذه النتيجة حتمية ثم أعاد التأكيد على موقفه في بروكسل هذه السنة، إذ يشارك هذان البلدان أصلاً في نشاطات الناتو باعتبارهما جزءاً من "شركاء الفرص المُحسّنة". إلى جانب بلغاريا ورومانيا وتركيا، تُعتبر مساهمات أوكرانيا وجورجيا أساسية لضمان الأمن في البحر الأسود، وقد بدأت روسيا تزداد عدائية في المنطقة، وهي تعوق طرقات التجارة وتؤثر على حرية الملاحة عبر تطوير قدراتها التقليدية والنووية في شبه جزيرة القرم المحتلة، وتستعمل تلك المساحة كمعقل لوجستي لنشاطاتها العسكرية في الشرق الأوسط.

بعيداً عن التعاون الأمني، تلتزم أوكرانيا وجورجيا بتعميق تكاملهما الاقتصادي والسياسي مع أوروبا، وقد عمد وزيرا خارجية البلدين، إلى جانب نظيرهما في مولدوفا، إلى إنشاء "الثلاثي المترابط" في كييف في وقتٍ سابق من هذه السنة بهدف الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف، ومن وجهة نظر أوروبا، يُعتبر التواصل مع هذه المجموعة فرصة لتعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي العالمية من خلال توسيع نطاق قيمه الديموقراطية وتقوية قدراته الاقتصادية، وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، يسهم تعميق هذا التعاون في تحقيق أهداف إدارة بايدن التي تحاول تعزيز الوحدة عبر الأطلسي وتقوية الحدود الشرقية لأوروبا الديموقراطية.

على صعيد آخر، تملك العواصم الغربية فرصة لاختراق دول أخرى كانت موسكو تتمتع فيها بنفوذ كبير تاريخياً، وتستحق الدول المجاورة لجورجيا في القوقاز وأرمينيا وأذربيجان اهتماماً خاصاً، وقد يسمح تطوير هذه العلاقات بالشكل المناسب بتعزيز الثقة بين الغرب وتركيا، وهي حليفة مهمة في حلف الناتو، وقد حاولت روسيا من جهتها أن تقوّي سيطرتها عبر طرح نفسها كقوة لحفظ السلام ووسيطة في خلافات المنطقة، لكن الغرب يستطيع أن يحدّ من النفوذ الروسي بفضل التحالف الناشئ بين أذربيجان وتركيا وغداة إعادة انتخاب رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان بطريقة غير متوقعة، إذ يميل هذا الزعيم إلى إيجاد التوازن في العلاقات بدل الاستسلام للقوى الخارجية.

في آسيا الوسطى، تثبت تجربة أوكرانيا أن سيطرة روسيا بدأت تضعف، حيث حاولت موسكو منع كييف من الوصول إلى المنطقة منذ عام 2014، لكن وجد الأوكرانيون طرقاً عدة للالتفاف على العوائق القائمة، وبدأت الجهود الأوكرانية المتواصلة لتجديد الروابط التجارية القوية تقليدياً، وتطوير مشاريع البنى التحتية، والتواصل مع الشتات، وتوفير فرص قيّمة للطلاب كي يدرسوا في أوكرانيا، تعطي ثمارها.

وحتى في بيلاروسيا، من المستبعد أن تتلاشى الضغوط الديموقراطية على المدى الطويل، مما يفتح المجال أمام الغرب رغم جهود ألكسندر لوكاشينكو المدعوم من الكرملين لتقوية عهده الرئاسي.

لا تزال روسيا قوة إقليمية بارزة، لكن لم تعد موسكو تحتكر النفوذ السياسي في المنطقة الممتدة من مينسك في الغرب إلى أولان باتور في الشرق منذ فترة طويلة، ويُفترض ألا يكون القرب الجغرافي من روسيا سبباً لإعاقة استراتيجيات واشنطن أو بروكسل، ففي النهاية، لم تكبح المخاوف المرتبطة بالحدود المشتركة جهود الصين لتطوير روابط عميقة مع عدد من الدول التي شكّلت تاريخياً جزءاً من نطاق نفوذ موسكو، وفي الوقت نفسه، يجب أن يتخلى الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون عن الفكرة القائلة إنهم يستطيعون منع توثيق الشراكة الروسية الصينية من خلال التعاون مع الكرملين، وقد أصبحت موسكو أصلاً جزءاً من محور بكين، وهي تشعر بالقلق على الأرجح من زيادة تقرّبها من الصين التي تزداد قوة.

وحدة الغرب أساسية

لن تؤدي عضوية أوكرانيا في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي إلى تعزيز التقدم في أوكرانيا فحسب، بل إنها قد تسهم أيضاً في توحيد صفوف الغرب مجدداً.

تُعتبر أوكرانيا لاعبة مؤثرة في أوروبا الوسطى والشرقية وفي البحر الأسود، مما يعني أنها تستطيع تقديم الكثير في مجال الأمن الإقليمي إذا أصبحت جزءاً من حلف الناتو، وتتمتع القوات المسلحة الأوكرانية القوية بخبرة قتالية ممتازة نتيجة قتالها ضد القوات الروسية منذ الغزو في عام 2014. لا يملك أي عضو في حلف الناتو اليوم هذا النوع من الخبرات أو المعارف التي ترافقها. في ما يخص الأمن الإلكتروني ومحاربة حملات التضليل، تَقِلّ الدول التي تنافس قدرة أوكرانيا على رصد التكتيكات الروسية والتصدي لها.

في غضون ذلك، تؤدي أوكرانيا دوراً محورياً لضمان استقلالية قطاع الطاقة في أوروبا. طوال عقود، كانت أوكرانيا بلداً جديراً بالثقة لعبور إمدادات الغاز نحو أوروبا، حيث يُخطط البلد للحفاظ على هذا الدور رغم محاولات روسيا الالتفاف على النظام الأوكراني عبر مشاريع مثل خط أنابيب "نورد ستريم 2". تتفوق أوكرانيا على غيرها بفضل بنيتها التحتية الفريدة من نوعها في مجال الطاقة، علماً أنها تشمل ثالث أكبر منشآت لتخزين الغاز تحت الأرض في العالم و22 ألفاً و991 ميلاً من خطوط الأنابيب، كذلك، تستطيع أوكرانيا أن تشارك في العملية الانتقالية نحو الطاقة الخضراء في أوروبا نظراً إلى قدرتها الهائلة على إنتاج الهيدروجين الأخضر عبر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وفي الوقت نفسه، تبدو عناصر أخرى من الاقتصاد الأوكراني واعدة جداً، بدءاً من قدرته المثبتة على استعمال الرقمنة وصولاً إلى قطاعه الزراعي القادر على ضمان أمن الغذاء العالمي.

لكن رغم التقدم الذي أحرزته أوكرانيا حتى الآن، لا يزال هذا البلد بحاجة إلى إصلاحات إضافية، حيث تدخل الجهود الرامية إلى استئصال الفساد في هذه الخانة، فقد سبق أن أحرزت الحكومة تقدماً بارزاً في هذا المجال، بما في ذلك تطبيق قانون تاريخي لاستصلاح الأراضي في الشهر الماضي بعد المماطلة بتنفيذه طوال عقدين. يسمح هذا القانون بزيادة الشفافية وتحسين الاقتصاد، كذلك، تم تمرير قوانين أساسية أخرى خلال هذا الصيف لتطهير السلك القضائي ومنح الخبراء الدوليين الحق بالمشاركة في تصويت حاسم لغربلة القضاة المحتملين إذا كانت سمعتهم مشبوهة، إذ يدرك الأوكرانيون أنهم يحتاجون إلى اتخاذ خطوات كثيرة أخرى لمعالجة الفساد المستفحل في النظام القضائي والقطاعات الدفاعية والأمنية ومؤسسات أخرى، لكن اتّضحت قوة الإرادة السياسية في هذه الخطوات الشجاعة الأخيرة التي طُبّقت رغم معارضة قوية من أصحاب المصالح الراسخة.

في عهد الرئيس فولوديمير زيلينسكي، تبدي أوكرانيا التزامها الكامل بتسريع جهود الإصلاح بما يتماشى مع توقعات شركائها الأوروبيين والعابرين للأطلسي، فهذا ما يريده الأوكرانيون الذين دفعوا ثمناً باهظاً للدفاع عن خيارهم، واليوم يدعم مسار التاريخ توجّههم على ما يبدو.

لكن لن تنجح جهود أوكرانيا من دون دعم قوي من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والدول الأعضاء فيهما، ويجب أن تكون الخطوات الأوكرانية متبادلة، مما يعني أن تسعى جميع الأطراف المعنية إلى تسهيل انتساب أوكرانيا إلى المنظمتَين معاً، كما يجب أن تعترف الولايات المتحدة وأوروبا بأن أوكرانيا جزء من الغرب كي لا تذهب الجهود الأوكرانية الراهنة أدراج الرياح.

* ديمترو كوليبا

ديمترو كوليبا