لطالما كان اكتشاف العوامل التي تتحكم بعمرنا الذاتي وقدرتنا على تغييره شائكاً من الناحية العلمية. لكن تُقدّم أحدث الأبحاث الآن بعض الأجوبة المفاجئة عن هذا الموضوع. من الناحية الإيجابية، يبدو أننا نستطيع السيطرة على جزء كبير من العوامل التي تُحدد العمر الذي ننسبه إلى أنفسنا، ما يسمح لنا بإطالة حياتنا والاستمتاع بها لأطول مدة ممكنة.نعرف منذ فترة أن احتساب عدد السنوات التي مرّت من عمر الناس قد لا يكون أدق طريقة لتقييم متوسط عمرهم المتوقع. تقيس "ساعات الشيخوخة" البيولوجية مؤشرات متنوعة في الجسم لتحديد المرحلة، التي وصلنا إليها من مسار الشيخوخة الجسدية. لكننا نعرف أيضاً أن الشيخوخة الجسدية ليست العامل الحاسم الوحيد في هذه العملية. لا يكتفي خبراء الشيخوخة بنشر أفكار عامة حول تأثير الشيخوخة الجسدية على الجسم، بل يعترفون أيضاً بحصول تغيّرات نفسية محتملة مع التقدم في السن.
مجرّد شعور
يختلف العمر الذاتي بدرجة كبيرة، رغم المسار النفسي العام الذي يتخذه. هذا الاستنتاج ليس مفاجئاً، إذ نعرف جميعاً أشخاصاً يحافظون على شبابهم رغم تقدمهم في السن، أو شباناً محافظين يفكرون ويتصرفون وكأنهم أكبر من عمرهم بكثير. لكن تذكر الدراسات أن التمسك بالشباب ظاهرة مفيدة فعلاً. يبرز رابط بين تراجع العمر الذاتي وتحسّن الصحة وإطالة الحياة والشعور بالراحة عموماً. في المقابل، يتزامن ارتفاع العمر الذاتي مع تفاقم الالتهاب، الذي يشير إلى تدهور الصحة العامة وشيخوخة الدماغ.لكل شخص منا "عتبة أساسية" يعود إليها باستمرار، وقد تتطابق مع العمر الحقيقي أو تختلف عنه من حيث الجدول النفسي الزمني على مر السنين. في هذا الإطار، يُعتبر العمر الذاتي مشابهاً لمقياس مهم آخر لنوعية الحياة: السعادة. تختلف مستويات السعادة، التي يعترف بها الناس بين يوم وآخر أو حتى بين ساعة وأخرى. لكن تتغير سعادة الفرد بناءً على عتبة أساسية. قد يمرّ الشخص المرح بطبيعته بأيام سيئة، لكنه سيعود دوماً إلى حالته السعيدة.وبسبب هذه التقلبات العابرة في العمر الذاتي، لن يكون التساؤل عن العمر الذي يشعر به الفرد مؤشراً جديراً بالثقة لمعرفة عتبة عمره الذاتي. تقول ماريا ميتينا، عالمة أحياء في شركة التكنولوجيا الحيوية "ديب لونجيفيتي" في هونغ كونغ: "هذا العامل المتغيّر ليس ثابتاً: قد تشعر اليوم بأنك أكثر سعادة وشباباً. ثم تشعر بعد أسبوعين بأنك تعيس، فيتغير عمرك الذاتي".كيف يمكن احتساب عتبة العمر الذاتي في ظل هذه التقلبات كلها؟ تساءل أليكس زافورونكوف، مؤسس شركة "ديب لونجيفيتي" وباحث في معهد "باك" لأبحاث الشيخوخة في كاليفورنيا، عن احتمال الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. كان زافورونكوف قد استعمل الذكاء الاصطناعي سابقاً لاكتشاف مؤشرات جديدة على الشيخوخة البيولوجية. تُعتبر هذه الساعات البيولوجية برأيه من أهم التطورات الحاصلة في أبحاث الشيخوخة حديثاً. لكن كان العلماء يغفلون عن الجانب النفسي حتى الفترة الأخيرة.يعطي الذكاء الاصطناعي منافع متعددة، أبرزها رصد الأنماط في مجموعات كبيرة من البيانات بطريقة يعجز البشر عن تمييزها، ما يسمح للنظام بالربط بين العمر الذاتي والعوامل التي لا تتعلق به ظاهرياً. تشتق البيانات التي اختارها زافورونكوف وميتينا وزملاؤهما من مشروع اسمه "ميدوس" (أو "منتصف العمر في الولايات المتحدة"). امتدّ هذا البرنامج البحثي على 20 سنة وأداره "المعهد الوطني الأميركي للشيخوخة" وكان مُصمّماً لفهم طريقة تأثير العوامل السلوكية والنفسية والاجتماعية على الصحة والراحة العامة، مع التقدم في السن. كان الباحثون يأملون في أن يسمح لهم الذكاء الاصطناعي بتطوير ساعة نفسية للشيخوخة على غرار الساعة البيولوجية.في مشروع "ميدوس"، جرت مقابلات مع آلاف الناس في الولايات المتحدة (تراوحت أعمارهم بين 25 و75 عاماً). كان 7100 شخص منهم (باستثناء المنسحبين والمتوفين) قد شاركوا في المشروع نفسه خلال التسعينات والعقد الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين. ثم أُضيف 3500 متطوع آخر في منتصف العقد الأخير. في كل مرة، طُرِح أكثر من ألف سؤال على المتطوعين حول مختلف جوانب حياتهم، بما في ذلك الصحة الجسدية والنفسية، ومستوى الراحة، والشخصية، والقناعات، والحياة الاجتماعية والجنسية. كان جزء من الأسئلة يهدف مباشرةً إلى قياس العمر الذاتي: ما هو العمر الذي تشعر بأنك تعيشه؟ وإذا تسنى لك أن تختار، ما هو العمر الذي تفضّله؟ تتعلق أسئلة أخرى بجوانب غير مرتبطة بالسن مباشرةً، مثل الصحة الجسدية والنفسية والأفكار الذاتية وخصائص الشخصية وأسلوب الحياة.ساعات الشيخوخة
كانت أول خطوة اتخذها زافورونكوف وزملاؤه تقضي بتصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي، لمراجعة استبيانات مشروع "ميدوس" ثم تدريبها على إطلاق توقعات دقيقة حول العمر الزمني والذاتي لكل فرد بناءً على أجوبته.نجحت تلك الأنظمة في إتقان مهمتها بعد التدرّب على أكثر من 10 آلاف استبيان. توضح ميتينا: "لقد طورنا ساعتَين نفسيتَين للشيخوخة. تُحوّل الساعة الأولى أجوبة الفرد إلى تقديرات دقيقة حول عمره الزمني وتقدّم أدلة إضافية على وجود نمط متوقع في حالة الناس النفسية مع التقدم في السن".أما الساعة الثانية، فحملت اسم "ساعة العمر الذاتي"، وهي تطرح تقديرات حول العمر، الذي ينسبه الناس إلى أنفسهم بناءً على أجوبتهم على الأسئلة التي لا ترتبط مباشرةً بعمرهم الذاتي. جرت مقارنات بين هذه التقديرات وأسئلة مشروع "ميدوس"، التي كانت تهدف إلى تقدير العمر الذاتي، منها ما يلي: "تخيّل أنك تستطيع اختيار العمر الذي تريده؛ ما هو العمر الذي تفضّله"؟ في المرحلة اللاحقة، قيّم الباحثون النموذجَين مقارنةً بأجوبة مشروع "ميدوس" التي قدّمها 2500 شخص إضافي، واكتشفوا أنهما دقيقان في إطار سبع سنوات تقريباً. تقول ميتينا إن هذا الإطار الزمني يوازي مسار الأبحاث المرتبطة بساعة الشيخوخة ويُعتبر جيداً بما يكفي للاستفادة منه طبياً، لكن يمكن تحسينه طبعاً. تكون أفضل الساعات البيولوجية دقيقة ضمن إطار زمني يقتصر على سنتين. تعمل ميتينا وزملاؤها على إضافة مؤشر حيوي موجود في الدم لتقليص الإطار الزمني المتوقّع.لكن يعتبر الباحثون نموذجهم جيداً بما يكفي لرصد العوامل المرتبطة بأسلوب الحياة والسلوكيات القادرة على توقّع العمر الذاتي والقابلة للتعديل.ليس مفاجئاً على الأرجح أن تكون الصحة الجسدية أبرز عامل مؤثر على ساعة العمر الذاتي حتى الآن. في ما يلي أهم سؤالَين من أصل ثلاثة: هل تحدّ صحتك من قدرتك على ممارسة تمارين جسدية مكثفة مثل الركض أو رفع الأوزان الثقيلة؟ وهل تأخذ أي أدوية طبية للسيطرة على ضغط دمك؟قد يتعلق ثاني أهم عامل مؤثر على العمر الذاتي بمستوى الرضا الذي يتوقعه الناس في حياتهم الجنسية خلال فترة عشر سنوات. تُعتبر الجهود التي يبذلها الناس لتحسين حياتهم الجنسية راهناً جزءاً من المراتب العشرة الأولى أيضاً. بعبارة أخرى، ستشعر بأنك أصغر سناً من الناحية النفسية إذا كنت راضياً على حياتك الجنسية.لا ترتبط عوامل مؤثرة أخرى بعمر الشباب ظاهرياً. تشمل لائحة أهم 25 عاملاً مؤثراً مثلاً حجم المساهمات التي يشعر الناس بأنهم يقدمونها لمساعدة الآخرين.في نهاية المطاف، تقول ميتينا إن الهدف الحقيقي يتعلق بتحويل هذه النتائج إلى نصائح لتعديل أسلوب الحياة ومساعدة الناس على الشعور بالشباب أو حتى إطالة عمرهم. كشف التحليل أن شخصاً في عمر الستين يكون أكثر عرضة بمرتين للوفاة لأي سبب وفي أي مرحلة لاحقة، إذا كان يشعر بأن عمره 65 عاماً، مقارنةً بشخص عمره ستين سنة ويشعر بأنه يعيش عمره الحقيقي.توضح ميتينا: "تبدو تداعيات هذا العامل واسعة على نحو مفاجئ. أظن أن هذه الفكرة هي أقوى نتيجة توصّلت إليها تجربتنا، ما يعني أن ارتفاع العمر الذاتي يضاعف خطر الوفاة".فيما يخص التعديلات المفيدة في أسلوب الحياة، يستطيع الناس أن يُحددوا أفضل الخطوات الملموسة لتخفيض عمرهم الذاتي بما أن الصحة الجسدية هي أبرز عامل يؤثر على ما نشعر به. تتعدد التعديلات المفيدة في هذا المجال، منها زيادة مستوى الرشاقة وتغيير الحمية الغذائية لتحسين ضغط الدم.حتى أن الخروج لاستكشاف العالم قد يعطي منافع بارزة. تتعدد المسائل التي تؤثر على مواقف الناس من الشيخوخة وعلاقاتهم بالآخرين ومشاركتهم في المجتمع وخصائص شخصياتهم. في جميع الحالات، يكون الانفتاح والتفاؤل من أفضل العوامل المفيدة. يتراجع العمر الذاتي مثلاً لدى من يحملون مشاعر إيجابية تجاه الشيخوخة ويعتبرون أنفسهم منفتحين على الحياة. تقول ميتينا: "يمكننا أن نطلب من الناس أن يزيدوا انفتاحهم على أشخاص جدد أو معلومات وتجارب جديدة، ويمكننا أن نشجّعهم على زيادة نشاطاتهم الاجتماعية".عدّل أسلوب حياتك على جميع المستويات
تتماشى هذه الاستنتاجات مع الأبحاث التي تتمحور حول المعمرين، فقد أثبتت الدراسات أن هذه الفئة من الناس تكون متفائلة واجتماعية بطبيعتها. يقول كار كريستنسن، مدير المركز الدنماركي لأبحاث الشيخوخة في جامعة جنوب الدنمارك، إن الإيجابية ترتبط بإطالة العمر أكثر من أي مؤشر حيوي آخر".قد يرغب آخرون في تركيز طاقتهم على جانب شخصي من حياتهم. تقول ميتينا: "إذا كنت سعيداً في حياتك الجنسية، ستصبح أكثر شباباً من الناحية النفسية على ما يبدو. لهذا السبب، قد تشعر بأنك أصغر من عمرك الحقيقي وتزيد راحتك العامة من خلال تحسين علاقاتك".إذا كنت تشعر بأن اضطرارك للإجابة عن ألف سؤال لمعرفة عمرك الذاتي هو هدر كبير للوقت، لا داعي للجوء إلى هذا النوع من الاستبيانات الطويلة. عمدت ميتينا وزملاؤها إلى تقصير الاستبيان وحصره بخمسة عشر سؤالاً. لا يتعلق أيٌّ من الأسئلة بالعمر الذي تشعر به مباشرةً.تتعدد الطرق التي تسمح بقياس تقدّمنا على مر الحياة، أبرزها العمر الزمني الذي يشير بكل بساطة إلى عدد السنوات الحقيقية التي مرّت علينا حتى الآن.لكن يتمحور مقياس أكثر دقة حول العمر البيولوجي. يعتبر هذا المقياس للشيخوخة عاملاً مرناً وقابلاً للتوقع نسبياً، بناءً على مسار التدهور البيولوجي، وهو يستعمل مؤشرات حيوية متنوعة، مثل الأيض والعوامل الوراثية، لتقييم المرحلة التي وصلنا إليها. يبرز أيضاً العمر المناعي الذي يقيس مدى شباب جهاز المناعة.هذا النوع من "ساعات الشيخوخة" يُحدد المرحلة التي وصلت إليها علاقاتنا بناءً على عدد السنوات، التي مرّت عليها، نسبةً إلى متوسط الشيخوخة البشرية. قد يكون هذا المعدل أعلى من العمر الزمني أو أدنى منه، وقد يفوق الفارق عتبة العشر سنوات أحياناً. حتى أنه قد يرتفع أو ينخفض نتيجة تعديل العادات المرتبطة بأسلوب الحياة. هذا ما يحصل مثلاً عند تكثيف التمارين الجسدية. قد يكون العمر مجرّد رقم، لكنه لا يساوي عدد الشموع على قالب الحلوى بالضرورة!اشعر بالشباب في زمن «كورونا»
بما أن الشعور بالشباب الدائم يتطلب درجة من حب المغامرة والنشاطات الاجتماعية، من المنطقي أن نتوقع انتشار مظاهر الشيخوخة وسط الناس أو تراجع شعورهم بالشباب بسبب تدابير الإقفال التام والتباعد الاجتماعي في زمن "كورونا".كان خبير الشيخوخة، أنطونيو تيراسيانو، من جامعة ولاية فلوريدا يحمل هذه الفكرة أيضاً. لكنه اكتشف أن العكس صحيح بعد إجراء بعض الأبحاث عن هذا الموضوع. أجرى تيراسيانو استطلاعاً شمل أكثر من 3738 راشداً أميركياً، فاعترف هؤلاء المشاركون بأنهم شعروا بالشباب والحيوية في مارس وأبريل 2020 أكثر مما فعلوا في شهرَي يناير وفبراير، أي قبل انتشار الفيروس في الولايات المتحدة. قد تبدو هذه الفكرة غير منطقية، لكنها النتيجة التي توصل إليها الباحثون.ربما شعر الناس بأن تمسّكهم بعمر الشباب يزيد قوتهم في وجه المرض، الذي اعتُبر مصدر تهديد على كبار السن في المقام الأول. يظن تيراسيانو أن هذا العامل يؤثر على العمر الذاتي: إنه انعكاس لرغبة الناس في الابتعاد نفسياً عن الصورة النمطية الاجتماعية السلبية للشيخوخة، باعتبارها مرحلة مرتبطة بالأمراض والموت.*غراهام لوتون