من مآسي الحياة العربية السياسية أن المجتمعات العربية التي راهنت على التنظيمات السياسية المعارضة لأنظمتها الحاكمة في التغيير والتنمية والعدالة والحياة الكريمة، إنما راهنت على «البديل الأسوأ»، فعلى على مر تاريخ العرب السياسي (وهو تاريخ من الصراعات الدموية على السلطة التي هي القيمة المحورية في الحياة السياسية والثقافية العربية) كانت المعارضات السياسية هي البديل الأسوأ. ابتليت المجتمعات العربية في الماضي، بجماعات انشقاقية على دولة الخلافة كالخوارج والقرامطة... إلخ، وفِي العصر الحديث عانت مجتمعاتنا من تنظيمات معارضة ذات منزع عقائدي ديني (سلفي جهادي، صحوي سياسي) أو عقائدي شيوعي أو قبلي تعصبي أو طائفي مذهبي، كانت بدائل كارثية على مجتمعاتها وأوطانها.
من مأثورات الإمام علي، رضي الله عنه قوله:عجباً للزمان في حالتيه … وبلاء ذهبت منه إليه رب يوم بكيت منه فلما … صرت في غيره بكيت عليه معبراً عن حال العرب في تقلبات أنظمتهم الحاكمة، كانت التغيرات السياسية تأتي نزاعاً على السلطة، لأجل إزاحة زعيم وإحلال آخر أو محق أسرة حاكمة وإحلال أخرى وكلما جاءت أمة لعنت أختها.أيام الملكيات التي استقلت عن حكم آل عثمان، قبل أكثر من قرن، كانت مجتمعاتنا تشكو الظلم والاستبداد والفساد والفقر، وجاء الانقلابيون الثوار بعد الاستقلال بآمال عريضة ووعود براقة بالوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية والتنمية وتحرير فلسطين، لكنهم فشلوا في كل شيء، وكانت عقوداً من القمع والقهر والفساد والإذلال وهدر الموارد والكرامات، تعرض المواطن العربي لتخريب نفسي هائل حوله إلى إنسان طائفي متعصب أو إرهابي يفجر نفسه في مسجد أو عزاء أو فندق أو مطعم لا مبال بحياة الآخرين. بدأت نكبة دولنا ذات الثقل الحضاري والسكاني بانقلاب سورية (1949) فمصر (1952) فالعراق والسودان (1958) فاليمن (1962) ثم ليبيا (1969) تسلم القوميون الثوار مقاليدها وخزائنها عامرة، وتركوها خراباً يباباً تتسول المعونات والمساعدات والقروض، أيقظت هذه النظم في الإنسان العربي البائس الانتماءات الدونية من تعصب قبلي وطائفي وتطرف ديني. حتى إذا بلغ الاستبداد مداه وانسدت الآفاق واشتدت الظلمات انبلج فجر ثورات ربيع العرب معلنة رفضها لهذه الأوضاع، وتحدت حواجز الخوف والرهبة، وأسقطت نظم القمع والقهر والفساد، تحدوها آمال وتطلعات إلى غد أفضل تسوده الحرية والعدالة والكرامة، ليأتي حكام عقائديون وعدوا الجماهير بالمن والسلوى، فشلوا وكانوا كسابقيهم مستبدين منغلقين، لا يملكون تنظيرات خطابية وشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع، لا برامج تنموية اجتماعية ولا حلولاً علمية عملية، استنسخوا برامج سابقيهم، وكانوا بديلاً أسوأ كادوا أن يضيعوا الأوطان ويقوضوا كل تراث ومقومات الدولة الوطنية الحديثة، لكن الجماهير المصدومة أفاقت من غفلتها وخرجت تسترد أوطانها ودولتها الوطنية. لقد كانت المحصلة النهائية لأنظمة القمع والقهر(7 عقود) في تخريب نفسية العربي، حيث يسلط عليه زوار الفجر يسحبونه من سربه الآمن ويرمونه في غياهب السجون معذباً مهدور الكرامة، ليخرج إنساناً مهزوما، إنه نتاج «فساد إذلال».أما في الخليج، فعندنا «فساد تنعم»، أفسد الريع الإنسان الخليجي وجعله اتكالياً معتمداً على الآخر في طعامه وشرابه ومقومات حياته كافة، كما أنتج بديلاً أسوأ، من جماعات معارضة ذات منزع قبلي أو طائفي أو عقدي تستغل حريات التعبير وتستقوى بكثرتها وبالخارج وبمنصات التواصل، تنظم اعتصامات وتشهر سيف القبيلة أو الطائفة أو العقيدة وتتحدى الدولة ويتبارى خطباؤها وشعراؤها في تهييج الجماهير وإطلاق الوعيد والتهديد بهدف لي ذراع الدولة وفرض مطالبها، إنها معارضات ذات منازع منغلقة على نفسها تهدم الوطن وتدمر شرعية الدولة، يجب أن يكون واضحاً (الدولة أولاً)، وعلى دولنا التصرف بحزم وإعلان أن هذا الأسلوب في المطالبة مرفوض والمبادرة إلى احتواء الموقف بالحسنى وإلا كان حكم الغاب والفوضى وكان مصيرنا وأوطاننا مرهونين بحكم «البديل الكارثي الأسوأ» القبلي والطائفي والعقائدي.* كاتب قطري
مقالات
نحو عقد اجتماعي جديد (3) البديل الأسوأ
16-08-2021