كنا نردد من بعض درويش الكثير، كنا ننبهر من كم المعاني في الكلمات البسيطة، وكنا نحفظ شعره وندس كتبه بين كتب المقررات، كما وردة الحب بين صفحات الكتب، كنا في تلك المكتبات نصاب بنشوة لا تشبهها نشوة عند رؤية كتبه بين كم الدواوين الشعرية العالمية.. أحيانا يكون صوتنا وكثيرا ما يكون ذاك النداء للاستيقاظ من السبات الذي طال ربما!فعندما قال في "يوميات جرح فلسطيني" وأهداها إلى فدوى طوقان:
نحن في حلّ من التذكارفالكرمل فيناوعلى أهدابنا عشب الجليللا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها،لا تقولي!نحن في لحم بلادي.. وفي فينا! ***آه يا جرحي المكابروطني ليس حقيبةوأنا لست مسافرإنني العاشق، والأرض حبيبة سرحنا بعيداً ونحن نرفع شعارات الدفاع عن الوطن، وحلمنا كثيراً بأوطان لا يسكنها العسس، ولا تكون سجونها أكثر من عدد مدارسها ومستوصفاتها ومسارحها وفرقها الموسيقية وقاعات الفنون وفضاءات مفتوحة للإبداع بكل ما تعنيه الكلمة. ورددنا مع درويش عندما ضاقت ببعضنا الأوطان أو لفظت بعضنا أو طاردتهم حتى ضاقت الأرض الواسعة، ولم يكن هناك مفر إلا الرحيل، رددنا معه "وطني ليس حقيبة وأنت لست مسافر". مات درويش بعدها وبقيت أشعاره ودواوينه أقوى منهم، ممن سرقوا الوطن وبقيت قصائده وكلماته تقض مضاجعهم رغم كل ما يبرز اليوم من تصور بأنهم انتصروا، وأنهم دخلوا مدن العرب رافعي رايات النصر المزيفة.. بقي هو وكل حرف نقشه يطاردهم في أكثر ساعات الانتصارات المزيفة. وبقينا نحن نردد "وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر" حتى أصبحنا نحن من يبحث عن وطن في تفاصيل تزداد بعداً عن تلك الصورة التي كان عليها، كلما اقتربت منه بعد هو عنك أو عن تلك الصورة التي كان عليها الوطن بكثير من بساطته وتراب أرضه وأزقته وحواريه وشوارعه الضيقة بعيداً عن الأوتوسترادات التي غزته الآن كالأخطبوط الذي يخنق صاحبه!كلما وضحت صورة وطن درويش لنا ولكل البشر خفتت صورة وطننا نحن، أو ذاك الذي كنا نعرف ونحب بل نهوى حتى العشق.. ذاك الذي عندما ينطق أحدهم باسمه تدمع العين شوقا له.. ذاك الذي قالوا عنه وتغزلوا ببحره ونخله وناسه الطيبين. كم تشتت العرب في بقاع الأرض وكلهم يبحث عن وطن عندما لفظت الأوطان أبناءها إلا بعضهم، ووضعت لوائح خاصة لتوصيف المواطن الحق رغم أن تعبير المواطنة نفسه لا مفهوم له في أوطاننا سوى "الولاء" والطاعة. كثيرون هربوا من البطش وآخرون من الجوع وبعضهم من قلة الحيلة والعوز وهو ليس في مجمله عوزا ماديا بل توقا لمساحة تحترم آدمية البشر، فنحن في أوطان تشبه أسواق النخاسة المتجملة والحضارية جداً والمصطنعة أيضا.. أي عبيد بملابس أحرار."وطني ليس حقيبة" قال ورددنا نحن حينها بكثير من القناعة حتى تحولت الحقيبة غصباً عنا الى وطن فيها بعض صور أو بقايا لحظات ماضيه، وبعض جمال، وكثير من المحبة المخزنة في تفاصيل أشيائنا الصغيرة التي نمسك بها وكأنها الأمل الوحيد الباقي. وأكمل "وأنا لست مسافر"، صحيح يا درويش ما قلته أنت لست مسافر، بل أنت ابن فلسطين وطنك الذي لن يكون حقيبة أبداً بل أجمل الأوطان وأكثرها حضوراً.. فيما بقينا نحن ربما يطلق علينا أتباعك كما أتباع الطرق الصوفية، بقينا نردد "وأنا لست مسافر" "وأنا لست مسافر" في محاولة لإقناع الدماغ أو القلب بأننا عائدون إلى أوطان تشبهنا أو أوطان كنا نعرفها وكنا نحبها حد العشق وحد التضحية بكل شيء من أجلها.. يأتيك صوت من بعيد ولكنه الوطن وهو ليس ملكاً لهم أو لأي أحد، إنه ملكك أنت وأنا ونحن جميعا.. إنه وطننا بل هي أوطاننا كلنا- نحن العرب- المنتشرين في بقاع الأرض الباحثين عن مساحات لا تخنق فيها الكلمة، ولا تكتم فيها الأصوات، ولا تخاف عندما تجتمع بأكثر من خمسة من أصدقائك، ولا تبعدون الهواتف عن مكان لقائكم لأن العسس لا يتوقف عن تسجيل كل كلمة بل كل حرف وكل لفتة أو تعبير وكل نفس. يا درويش نحن مسافرون ولا أوطان لنا سوى حقائب سفرنا، فاغفر لنا أننا خذلناك إلا هم القابضون على الجمر فلا يزالون هناك مدافعين عن الوطن حتى آخر نفس.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
حقيبة اسمها وطن! *
16-08-2021