أصبحت كازاخستان عالقة بين روسيا والصين، أكبر قوتَين في أوراسيا، وهي تُعتبر أيضاً أكبر شريكة للولايات المتحدة في آسيا الوسطى، فمن خلال الحفاظ على علاقات حسنة مع روسيا والصين والولايات المتحدة في الوقت نفسه، تقيم كازاخستان توازناً دبلوماسياً فريداً من نوعه، لكن المواجهة بدأت تحتدم بين القوى العالمية ومن الأصعب على كازاخستان اليوم أن تحافظ على هذا التوزان الجيوسياسي من دون الانجرار إلى الصراع.

تعتبر كازاخستان العلاقات الودية مع الولايات المتحدة جزءاً أساسياً من استراتيجيتها للتصدي للنفوذ الروسي والصيني لأن هذين البلدين المجاورَين يقلقان قادة البلد من وقتٍ لآخر، وقد انتقدت موسكو مثلاً السلطات في كازاخستان لأنها سمحت بعبور السلع الأميركية إلى أفغانستان عبر موانئها ووافقت على تمويل البنتاغون لإعادة بناء مختبرَين بيولوجيَين في كازاخستان وقدّمت لها خدمات أخرى.

Ad

كذلك، أثارت الصين قلق كازاخستان في الماضي، فنشرت في السنة الماضية مثلاً مقالة بعنوان "لماذا تتوق كازاخستان للعودة إلى الصين" وادّعت أن أرض كازاخستان تنتمي تاريخياً إلى الصين.

للتعامل مع هذه المواقف الشائكة، يقضي جزء من استراتيجية كازاخستان إذاً بالحفاظ على روابط إيجابية مع روسيا والصين والولايات المتحدة، مما يسمح لها بتبادل الخدمات مقابل وفائها، فتتابع واشنطن مثلاً تعاونها مع كازاخستان رغم مشاكلها الكثيرة في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، وتقدم موسكو الأسلحة إليها، في حين تسمح الصين للمنتجين الزراعيين في كازاخستان بالوصول إلى سوقها المحلي الضخم منذ عام 2018.

لكن وراء هذه المناورات الظاهرية، تدعو كل قوة كازاخستان إلى الانحياز إلى طرف معيّن دوماً، حيث تُعتبر موسكو الأكثر نشاطاً على هذه الجبهة، مع أن كازاخستان نادراً ما تدعمها في الشؤون الدولية وتحاول الحفاظ على موقف حيادي، فهي لا تعترف مثلاً بشبه جزيرة القرم كأرض روسية ويرفض الرئيس قاسم جومارت توكاييف استعمال مصطلح "ضمّ الأراضي"، كذلك، لن تنضم كازاخستان إلى العقوبات الروسية المضادة على اعتبار أن العقوبات الغربية ليست مُسيّسة بل تستهدف دولاً فردية، لا الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ككل.

في غضون ذلك، تفضّل الصين بدورها أن تنحاز كازاخستان لها في مواجهتها مع الولايات المتحدة، في ما يخص موضوع التعامل مع الإيغوريين في شينجيانغ، ترفض كازاخستان أن تصدّق التقارير التي تتكلم عن حصول اضطهاد جماعي. على صعيد آخر، لم يوقّع البلد أي رسائل دعماً للسياسة الصينية هناك، كما فعلت روسيا، وقد أعطى حق اللجوء حديثاً لعدد من اللاجئين الصينيين الذين عبروا الحدود نحو كازاخستان بطريقة غير شرعية.

حتى الولايات المتحدة لا تحاول الاستفادة من تضامن كازاخستان، لا سيما في مواجهتها مع الصين، وتحديداً خلال عهد ترامب. حين زار وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، كازاخستان في فبراير 2020، اكتفى بالتكلم عن أهمية أن يقاوم البلد النفوذ الصيني.

في ظل احتدام المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، تجد كازاخستان صعوبة متزايدة في الحفاظ على توازنها، لكنها مضطرة للتمسك بعلاقات حسنة مع مختلف الأطراف، تزامناً مع البقاء على مسافة من الجميع، ولا تستطيع القوى العظمى أن تجبر كازاخستان على إثبات وفائها المطلق لأي طرف منها، ولن تصل روسيا والصين إلى أي مكان، حرفياً، ولا مصلحة لروسيا في حرق الجسور مع آخر شركائها الأوفياء.

برأي بكين، يجب أن تبقى هذه الدولة المجاورة لإقليم شينغيانغ الإيغوري المستقل معقلاً للاستقرار في المنطقة، فتسمح بدخول المستثمرين الصينيين وتشكّل نقطة عبور أساسية بين الصين والمساحات السوفياتية السابقة وأوروبا، كذلك، تؤدي كازاخستان دوراً محورياً في "حزام طريق الحرير الاقتصادي"، أهم مشروع بنى تحتية أطلقه شي جين بينغ.

من وجهة نظر الولايات المتحدة، تُعتبر كازاخستان شريكتها الوحيدة في آسيا الوسطى، وهي تستفيد من الوجود الأميركي ولا تغيّر قراراتها باستمرار سعياً لتحقيق منافع قصيرة الأمد، كما فعلت قيرغيزستان أو أوزبكستان في عهد رئيسها السابق إسلام كريموف.

يقع هذا التوازن في صلب استراتيجية السياسة الخارجية في كازاخستان، وستواجه أي محاولة خارجية للانقلاب عليه معارضة شرسة، ومن المستبعد أن يتغير هذا المسار في المستقبل المنظور رغم استمرار عملية نقل السلطة، بل إن رئيس كازاخستان الثاني هو تجسيد حي لذلك المسار: قاسم جومارت توكاييف هو خبير في الحضارة الصينية، وقد درس في "معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية" المرموق، وطوّر مسيرته الدبلوماسية في الأمم المتحدة.

● تيمور أوماروف - كارنيجي موسكو