في 1 أغسطس 2020، تجمع نحو 30 ألف شخص في برلين للاحتجاج على إجراءات الإغلاق الناجمة عن فيروس كورونا، ورغم أن ذلك الحدث، الذي نظمته حركة «كويردانكر» (المفكرون المنفتحون) ومقرها شتوتغارت، تحدى الحظر المفروض على التجمعات العامة، فإنه كان في النهاية احتجاجا سلميا إلى حد ما، ولا ينطبق الوصف نفسه على المظاهرة التالية ضد الإغلاق في العاصمة، في 29 أغسطس 2020.لقد تصرف معظم المشاركين في مسيرة 29 أغسطس والبالغ عددهم 38 ألفا، بصورة سلمية، ونُظمت تلك المسيرة بعد أن ألغت محكمة إدارية في برلين حظر الشرطة على المظاهرة، ولكن مجموعة منشقة مكونة من 450-500 متظاهر، أغلبهم من أقصى اليمين، حاولت اقتحام الرايخستاغ، ولم يكن الهجوم عنيفا ومخططا له جيدا مثلما كان الهجوم الذي تعرض له مبنى الكابيتول الأميركي، والذي كان من المقرر أن يحدث في 6 يناير 2021، وأجج هذا الهجوم نظرية مؤامرة «كيو أنون» الأميركية، لكنها كانت المرة الأولى منذ الحقبة النازية التي يتعرض فيها «الرايخستاغ» للهجوم، وهذا لا يبشر بالخير في ألمانيا.
في 1 أغسطس 2021، تقدمت حركة «كويردانكر» بطلب الحصول على إذن لتنظيم مظاهرة يشارك فيها نحو 25000 شخص، وقوبل الطلب بالرفض، على أساس أن الحركة انتهكت مرارا وتكرارا الإجراءات المتعلقة بالوباء، فرفع المنظمون قضية في المحكمة لكنهم خسروها، ومع ذلك، حصل موكبهم على إذن بالتظاهر.بيد أنه تبين أن الموكب كان خدعة، إذ بدأت مجموعات من المتعاطفين مع «كويردانكر» في السير في أنحاء مختلفة من المدينة بذريعة التجمع عند بوابة «براندنبورغ» وأمام مبنى «الرايخستاغ»، وأعقب ذلك مشهد سريالي، إذ استمتع المفكرون المنفتحون الـ7000 بلعبة القط والفأر مع عناصر الشرطة، دون وضع كمامات، وفي تجاهل لتدابير النظافة، ويبدو أن عناصر الشرطة قللت من احتمال التجمع غير القانوني، ونطاقه، واحتمالية تسببه في اندلاع أعمال عنف.إن حركة «كويردانكر» تلعب بالكلمات؛ فهي تتكلم بتناقض من جهة، وتعبر عن التفكير الجانبي من جهة أخرى، وأطلقت الحركة في أبريل 2020 من قبل مهندس البرمجيات في شتوتغارت، مايكل بالويغ، بهدف الترويج لسبب واحد: نهاية عمليات الإغلاق كوفيد19.ويقول بالويغ وأتباعه إن إجراءات الصحة العامة التي اتُخذت أثناء الوباء تنتهك الحقوق الدستورية للشعب الألماني، بما في ذلك الحق في حرية التجمع، وهذا صحيح، لكن موقف الحكومة- الذي يشير إلى مداولات واسعة في البرلمان والمحاكم- هو أن هذه الانتهاكات المؤقتة في محلها، نظرا لخطورة كوفيد19.إن أتباع حركة «كويردانكر» غير مقتنعين، فهم يتهمون الحكومة باستخدام الوباء كذريعة لإنشاء دكتاتورية في البلد، وشعارهم المفضل، الذي هتفوا به في احتجاجات كثيرة، هو «سلام، حرية، لا دكتاتورية».وبعد أحداث أغسطس 2020، أصبح جزء «السلام» من هذا الشعار موضع تساؤل على نحو متزايد، تماما كما هي الحال بالنسبة إلى تركيز حركة «كويردانكر»على الحقوق الدستورية خلال عمليات الإغلاق من جراء كوفيد19، ومع نمو الحركة، التي أصبح لها الآن فروع محلية في 59 مدينة ألمانية، وسعت نطاق حججها.ويزعم بيان صحافي صدر مؤخرا عن حركة «كويردانكر» أن الحكومة استخدمت الوباء لخلق «نوع من المراقبة الدائمة»، ومنح سلطات جديدة للشرطة وحرس الحدود، «من أجل زيادة تقييد حقوق الإنسان في جميع أنحاء أوروبا»، وفضلا عن ذلك، تؤكد الحركة، أن الحكومة أجبرت الناس على «فقدان وظائفهم... والعمل لساعات إضافية، والتنازل عن الأجور، وتدمير صحتهم»، كما دمرت آفاق الشباب المستقبلية من خلال تقييد التعليم، وتواجه ألمانيا الآن «أكبر عملية إعادة توزيع تصاعدية، وموجة من عمليات المصادرة ذات الأبعاد التاريخية»، ولن «تغض حركة كويردانكر» الطرف» عنها.ومن خلال ربط اهتمامها الرئيس بقضايا مثل مراقبة الدولة وعدم المساواة الاقتصادية، وسَّعت حركة «كويردانكر» إلى حد كبير قاعدة دعمها المحتملة. وانضم مناهضو التطعيم، والأناركيون، والليبراليون، واليمينيون، والفرق السرية من جميع الأطياف إلى القضية، وهذا ليس غريبا بالنسبة لحركة اجتماعية تبدأ من القاعدة، لكنه لا يفعل الكثير من أجل مصداقية الحركة.وينكر بالويغ قرب حركة «كويردانكر» من المتطرفين فما بالك ارتباطها بهم، مدعيا أن مثل هذه التصورات هي نتيجة للتقارير الإعلامية المضللة والمتحيزة، ولكن الدراسة الأكثر شمولا لحركة «كويردانكر»، التي أجراها عالم الاجتماع، أوليفر ناشتوي، وفريقه في جامعة بازل، تشير إلى عكس ذلك.وشملت الدراسة الاحتجاجات المرتبطة بالوباء في ألمانيا، والنمسا، وسويسرا، وخلصت إلى أن الحركات كانت غير متجانسة، وضمت عدة مجموعات اجتماعية ومتباينة في أغلب الأحيان، والشيء الذي وحدها هو الشعور بالاغتراب عن المؤسسات السياسية، والأحزاب القائمة، ووسائل الإعلام الرئيسة.وتشير الدراسة إلى أن هذا الاغتراب يجعل هذه الحركات عرضة لنظريات المؤامرة، وربما ليس من المستغرب أن تظهر مظاهرات «كويردانكر» بصورة متزايدة ميولا معاديا للسامية، على الرغم من أن الحركة ليست معادية للأجانب، ولا للإسلام بصورة خاصة.إن حركة «كويردانكر» هي، كما لاحظ ناتشوي وفريقه، تحررية بعمق، ويميل أتباعها إلى اعتماد معتقدات في الطب البديل والتفكير الشمولي والروحي، وهو منظور يرتبط ارتباطا وثيقا بعدم الثقة في الطب الحديث والعلوم على نطاق أوسع، وفي النهاية، فهم غالبا ما يتقاسمون ثلاث خصائص شخصية رئيسية: مقاومة الحقيقة (نموذجية لمنظري المؤامرة)، وإيمان قوي بنسختهم الخاصة من الحقيقة، واعتقادهم أنهم أقوم أخلاقا من الآخرين، وهو ما يكاد يكون غطرسة.ويؤدي التحول إلى اليمين إلى تضخيم هذه الاتجاهات، فرغم أنه لا يمكن اعتبار حركة «كويردانكر» حركة يمينية، يحذر ناتشوي وزملاؤه من أن احتمالات التطرف آخذة في الارتفاع، فقد أعرب حزب البديل اليميني من أجل ألمانيا بالفعل عن دعمه للحركة، وغالبا ما شارك أعضاء الرايخسبورغ، وهي مجموعة هامشية يمينية تنكر الوجود القانوني للجمهورية الفدرالية وتسعى إلى إعادة نسخة الإمبراطورية الألمانية لما قبل 1918، في تجمعاتها.والسؤال الآن هو كيف ينبغي أن تتعامل ألمانيا مع الأمر؟ فقد دعا البعض إلى حظر حركة كويردانكر، وأُعلن أن فصولها الـ59 غير قانونية، لكن الحكومة ليس لديها رغبة كبيرة لاتخاذ هذه الخطوة العنيفة، التي قد تأتي بنتائج عكسية، وتحرض على المزيد من المظاهرات غير القانونية والعنيفة، وقد يأمل المرء أيضا، أن تتراجع حركة «كويردانكر» مع تراجع الوباء. ومع ذلك، حتى لو تلاشت الحركة، ليس من المحتمل أن تزول مشاعر الاغتراب عن السلطات التي عززتها، وانعدام الثقة فيها، إذ أججت هذه القوى نفسها حركة «بيغيدا» المعادية للإسلام، التي نظمت مسيرات أسبوعية في ألمانيا في عام 2015، لكنها تبددت في النهاية، تاركة وراءها مجموعة صغيرة نسبيا من اليمينيين، وقد تُعزز صعود فصيل آخر من هذا النوع بعد التطور السياسي القادم والمثير للجدل.إن هذه هي الدوافع الأساسية هي التي ينبغي على الحكومة الألمانية وغيرها أن تسعى لمعالجتها، لأن هذه الظاهرة ليست حكرا على ألمانيا، بل إن التحول العميق يغذي المخاوف، ويمكن أن يجعل الناس يشعرون، على حد تعبير عالم الاجتماع، آرلي هوشيلد، بأنهم «غرباء في أرضهم»، ويعتمد «رواد الأعمال» السياسيين مثل بالويغ- أو الرئيس السابق، دونالد ترامب، في الولايات المتحدة- على هذه المشاعر لكسب الدعم لهم أو لقضاياهم.إن الدرس بسيط بقدر ما هو صعب: يجب على الحكومات الاستماع باهتمام، وفهم مخاوف الناس، وتحديد قادة الاحتجاج الفعليين والمحتملين قبل أن يشاركوا أو يناقشوا أو يحاولوا إقناع الناس بنظرية المؤامرة المجنونة. ومع مرور الوقت، يمكن أن يقلل هذا النهج من احتمالية ظهور الحركات المتطرفة والشعبوية المزعزعة للاستقرار، أو على الأقل تقليل مخاطر العنف، وفي غضون ذلك ستظل هذه المجموعات تشكل خطرا على المجتمع والديمقراطية.* أستاذ علم الاجتماع بكلية هيرتي لشؤون الحكم في برلين، وأستاذ مساعد لشعبة الرعاية الاجتماعية في كلية لوسكين للشؤون العامة، بجامعة كاليفورنيا.
مقالات
مخاطر نظرية «كْيو» تلوح في أفق ألمانيا
18-08-2021