العلاقات الأميركية الصينية... منافسة محتدمة وترابط عميق!
في ظل التركيز المفرط على المنافسة بين القوى العظمى، لم تحصل نزعتان أوسع نطاقاً في العلاقات الأميركية الصينية على القدر نفسه من الانتباه، ترتبط النزعة الأولى بتوسّع الفجوة في القوة الوطنية الشاملة في الولايات المتحدة والصين مقارنةً بأي بلد آخر في العالم، أما النزعة الثانية فتتعلق باستمرار الترابط العميق بين واشنطن وبكين رغم توسّع المنافسة بينهما، وحتى في المسائل الاقتصادية لا تزال البيانات التجارية والاستثمارية تشير بكل وضوح إلى وجود ترابط عميق بين الطرفين، حيث ستؤثر هذه النزعات على مسار المنافسة بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات المقبلة، فبعد تلاشي القوة الأميركية الأحادية في النظام الدولي، تَجدّد التركيز على دور القوى العظمى في هذا النظام، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والهند، واليابان، وتشمل كل واحدة من هذه القوى عدداً سكانياً مرتفعاً وتتمتع بثقل اقتصادي أو عسكري كبير، لكن لا يملك أيٌّ منها جميع العوامل اللازمة، فالولايات المتحدة والصين كلاهما تتمتع بهذه الصفات كلها.من المتوقع أن تتابع الولايات المتحدة والصين حشد ثقلهما في النظام الدولي خلال المرحلة المقبلة، حيث يشتق دورهما المتوسّع في الاقتصاد العالمي من قطاعات التكنولوجيا فيهما، ويتمتع هذان البلدان بخصائص فريدة من نوعها، منها خبرة رفيعة المستوى في مجال الأبحاث، ومعاقل عميقة لجمع الرساميل، ووفرة البيانات، وأنظمة ابتكار شديدة التنافسية، كذلك يستفيد الطرفان بدرجة غير متكافئة من تجمّع معاقل التكنولوجيا فيهما، فمن أصل 4500 شركة تُعنى بالذكاء الاصطناعي في العالم مثلاً، ينشط نصفها تقريباً في الولايات المتحدة وثلثها في الصين، ووفق دراسة معروفة أجرتها شبكة PricewaterhouseCoopers، من المتوقع أن تستولي الولايات المتحدة والصين على 70% من الأرباح المفاجئة التي سيضيفها قطاع الذكاء الاصطناعي إلى الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030 وتبلغ قيمتها 15.7 تريليون دولار.من ناحية أخرى، قد ينتج حجم المصالح الأميركية والصينية المشتركة شكلاً من الاعتدال في طريقة إدارة العلاقة بين واشنطن وبكين مع مرور الوقت، ولن تُركّز السياسة الأميركية في المستقبل المنظور على «هزم» الصين أو تسريع انهيار الحزب الشيوعي الصيني على الأرجح، بل سيصبّ التركيز على اتخاذ المجموعة اللازمة من الخطوات المحلية والخارجية، بالتعاون مع الشركاء، لتقوية القدرة التنافسية الأميركية في وجه الصين على المدى الطويل، وفي الوقت نفسه، سيتابع القادة الأميركيون حث نظرائهم الصينيين على تحسين طريقة تعاملهم مع مواطنيهم، وتتماشى هذه الجهود مع هوية الولايات المتحدة باعتبارها المدافعة الأولى عن القِيَم.
على صعيد آخر، ستمنع الروابط التجارية والمالية والعلمية والأكاديمية بين الولايات المتحدة والصين أحد الطرفين من إيذاء الطرف الآخر لأنه سيؤذي نفسه حتماً في خضم هذه العملية، وفي هذا السياق كتب عالِم السياسة الأميركي جو ناي: «تستطيع الولايات المتحدة أن تُبعِد مصادر المخاطر الأمنية مثل شركة «هواوي» عن شبكة الاتصالات العاملة بالجيل الخامس محلياً، لكنّ محاولة تقليص جميع العمليات التجارية مع الصين ستكون مكلفة جداً، وحتى لو كان فك الترابط الاقتصادي ممكناً، لا يمكن كسر الترابط البيئي الذي يخضع لقوانين علم الأحياء والفيزياء، لا السياسة».من المتوقع أن يستعمل الرئيس الأميركي جو بايدن التحديات التي تطرحها الصين لتقوية أجندته المحلية، لكنه ليس شخصاً أيديولوجياً ومن المستبعد أن يحدّ هامش مناوراته عبر تصوير العالم انطلاقاً من خطوط فاصلة ودائمة باللون الأسود والأبيض، حيث يدرك فريق بايدن أنه سيجد صعوبة متزايدة في إحراز التقدم على مستوى التحديات العالمية الجدّية مثل التغير المناخي، والأوبئة، والتعافي الاقتصادي العالمي الشامل، من دون عقد اتفاقيات براغماتية مع الدول غير الديمقراطية. يبقى أي تحسّن بارز وقريب في العلاقات الأميركية الصينية مستبعداً، إلا إذا حصل تغيير غير متوقع في سلوك بكين، وفي الوقت نفسه، يصعب أن تميل هذه العلاقة الثنائية نحو العدائية المباشرة، إلا إذا وقع حدث دراماتيكي مفاجئ، كأن تطلق الصين عملاً عدائياً ضد أحد شركاء الولايات المتحدة في المجال الأمني.باختصار، ستكون العلاقات الأميركية الصينية شائكة ومتوترة، ومن المستبعد أن يقدّم أي طرف منهما التنازلات لتحسين العلاقات الثنائية، وفي غضون ذلك سيكون توازن المصالح في البلدين كفيلاً على الأرجح بالسيطرة على أي انفعالات عدائية، فتصبح العلاقة بين الطرفين مبنية على التنافس المحتدم، لكن سيدرك البلدان في الوقت نفسه أنهما يتأثران بقدرتهما على معالجة التحديات المشتركة.