يبدو أن القضية الإسكانية اقتربت كثيراً مما يعرف محلياً بـ "سكة سد"، كنتيجة طبيعية لمجموعة من السياسات والمعالجات المنحرفة على مدى السنوات الماضية.

فمنذ مطلع الشهر الجاري، ظهرت عثرتان كبيرتان على طريق القضية الإسكانية المتعثرة أصلاً منذ سنوات، أولاهما إعلان بنك الائتمان أن قدرته "لا تسمح حالياً بتمويل كل القسائم الحكومية في مدينة المطلاع، التي تضم 28 ألف وحدة سكنية"، وأنه تقدم بطلب لزيادة رأسماله منذ عام 2018، كما يترقب إقرار عدد من التشريعات القانونية للتغلب على عدم توافر السيولة اللازمة لتمويل القروض العقارية في الوقت الحالي.

Ad

أما العثرة الثانية فتمثلت في نشر الخطة السنوية لميزانية المؤسسة العامة للرعاية السكنية وأولويات مشاريعها للسنة المالية 2021/2022، دون رصد لميزانية مدينة جنوب سعد العبدالله التي من المتوقع أن تضم 25 ألف وحدة سكنية.

وهاتان العثرتان لا ترتبطان فقط بالمدينتين المذكورتين أو بإجمالي الوحدات السكنية فيهما، بما يمس نحو 53 ألف أسرة، بل تتعديان ذلك إلى تجميد مختلف المشاريع القائمة في مدن جنوب صباح الأحمد أو غرب عبدالله المبارك أو خيطان، فضلاً عن المشاريع المستقبلية، التي لم تعلن عنها المؤسسة حتى الآن، مما يعني أن الأزمة الإسكانية وصلت إلى طريق مسدود، ولابد من معالجات جوهرية حقيقية ربما تتطلب كفاءة حكومية مفقودة أكثر مما تحتاج إلى مواجهة موجة شعبوية ترفض التعامل مع الواقع.

أوهام مختلفة

الاستراتيجيات المختلفة لحل القضية الإسكانية، خلال السنوات الماضية، ارتكزت على معالجات بعيدة عن أصل المشكلة، توهمت فيها مؤسسة الرعاية أن تخصيص 12 ألف وحدة سنوياً "على الورق" يعد إنجازاً بحد ذاته، وأن بناء المدن الكبرى عملية لا تتجاوز التعاقد مع المقاولين، دون النظر لتحديات الخدمات كالكهرباء والماء والتمويل كقروض بنك الائتمان، أو أن إلغاء الرقابة المسبقة يسرّع تنفيذ المشاريع الإسكانية، أو أن الدولة تستطيع الاستمرار بمنتجاتها السكنية الجامدة عبر التوزيع الأفقي إلى ما لا نهاية، أو أن زيادة رأس مال بنك الائتمان من الدولة يمكن أن يكون حلاً بعيد الأمد لمشكلة تمويل السكن الخاص... هذه كلها كانت أوهاماً مختلفة أفضت إلى وصول القضية الإسكانية الى طريق شبه مسدود.

بشاعة الأزمة

ونتج عن هذه الأوهام أوضاع أكثر بشاعة من تلك التي زامنت استبيان رئيس مجلس الأمة عام 2013 حول أولويات المواطنين والذي تصدرته الأزمة الإسكانية، فواقع الأزمة ينبئنا بانتظار نحو 140 ألف أسرة لحق الحصول على سكن، وتضخم الأسعار بشكل خيالي لدرجة تضاعف فيها سعر المتر السكني في بعض المناطق إلى 3 أو 4 أضعاف سعره قبل 20 عاماً، وأصبحت المساكن في السكن الخاص "عمارات استثمارية"، لتتحول اليوم أغراض السكن الخاص من حاضنة توفر للأسرة الأمن الاجتماعي الى بيئة مضاربة واحتكار واستغلال.

والأكثر سوءاً من واقع الأزمة هو أن الفشل في المعالجة وفّر البيئة المناسبة للمقترحات الشعبوية الضارة أصلاً بالقضية الإسكانية، كرفع قيمة بدل الايجار او السماح ببناء دور رابع في بعض المساكن، وغير ذلك من المقترحات المرهقة لمالية الدولة وبنيتها التحتية، من دون أن يكون لها دور في معالجة الأزمة.

المعوقات والحل

لا شك في أن التحديات في القضية الإسكانية تتصاعد كواحدة من أبرز القضايا الخدمية كالتعليم والصحة، فضلاً عن سوق العمل، والتي تشكل كلها ضغطاً متنامياً على مالية الدولة المنهكة أصلاً مع تضخم المصروفات وعدم قدرة أسعار النفط على تغطيتها، وكلها عوامل تجعل الحلول المطروحة سهلة نظريا، لكنها صعبة التطبيق لأنها ترتبط بشكل أساسي بكفاءة الادارة الحكومية للأزمة.

فضعف الكفاءة الحكومية يجعل حلاً منطقياً، مثل تنمية إيرادات بنك الائتمان عبر زيادة قيمة القسط الإسكاني وتقليص مدة السداد، غير متاح؛ لأن هذا الإجراء يجب أن يواكبه خفض لمدة انتظار الحصول على سكن، كي لا تضاف تكلفة القسط إلى تكاليف سنوات طويلة من الإيجارات، وتجعل الحل التمويلي عبر قانون الرهن العقاري لمدة تصل إلى 30 عاماً، دون دراسة واضحة لتكلفته التي تتحملها الدولة، ككرة ثلج لا تشكل أي قيمة في سنواتها الأولى، لكنها قد تتضخم كعبء إضافي على الميزانية في سنوات لاحقة.

كما أن فكرة تحويل اختصاصات مؤسسة الرعاية السكنية في بناء المدن الجديدة إلى شركات مساهمة عامة "مطور عقاري"، في مناطق مختلفة توزع الأراضي والمساكن وفق اشتراطات معينة مقابل استثمارها مثلاً للأراضي التجارية والصناعية والخدمية لمدد طويلة- هذه الفكرة، رغم أنها منطقية وترفع عن "السكنية" عبء التنفيذ الجماعي للمدن، تتطلب كفاءة مفقودة في أن تكون مؤسسة الرعاية السكنية "هيئة ناظمة" تراقب مدى التزام الشركات بالمواصفات والاشتراطات والخدمات، وهي التي لا تزال تعاني ضعف آلية المتابعة مع تعثر المقاولين على بساطته، فكيف ستتعامل مع تعقيدات نظام جديد كالمطور العقاري رغم أهميته.

كهرباء و"متجددة"

ورغم أن الكويت تحتاج إلى تنويع مصادر الطاقة الكهربائية لبناء ما لا يقل عن 100 ألف منزل جديد خلال أقل من 10 سنوات، بما يرفع تكلفة الدعم للكهرباء والماء من ملياري دينار الى نحو 6 مليارات، أي 23 في المئة من اجمالي مصروفات الميزانية الحالية، فإن هذا التحدي لم ينعكس على سياسات مؤسسة الرعاية السكنية بفرض نسبة للطاقة المتجددة ضمن مشاريع المدن السكنية الجديدة، في دولة تستهدف أن يكون 15 في المئة من إجمالي الطاقة التي تستهلكها عام 2030 للطاقة المتجددة، في حين أن الواقع الحالي يشير إلى أن حجم الطاقة المتجددة في الكويت لا يتجاوز في عام 2021 أكثر من 1 في المئة.

كل الأفكار غير الشعبية التي تسهم في المعالجة، كرفع قيمة القسط الاسكاني أو تقليص مساحات القسائم الجديدة أو الاعتماد على المطور العقاري بدلا من الرعاية السكنية، لن يكتب لها النجاح إن لم يقابلها إدارة كفؤة للأزمة مؤهلة في تسريع وتيرة تنفيذ الطلبات الإسكانية... فليس هناك أسوأ من الضغط على المواطنين، عبر قرارات غير شعبية، بالتزامن مع الإخفاق في تحقيق إنجاز حقيقي على أرض الواقع.

● محمد البغلي