«علكة ملتصقة على نعل حذاء الصين»! هكذا وصف هيو شيجين، رئيس تحرير صحيفة «غلوبال تايمز» التي يديرها الحزب الشيوعي الصيني، أستراليا في السنة الماضية، ويُعتبر هذا الوصف الشائن اعتيادياً في إطار الازدراء الذي يبديه الدبلوماسيون وأصحاب الحملات الدعائية الصينيون تجاه الحكومات التي تتحدى بكين، كما فعلت أستراليا.أصبحت الصين اليوم قوة عظمى في آسيا، أو هذا ما تظنه بكين على الأقل، لكن لا يكف الأستراليون المزعجون عن التكلم حول حقوق الإنسان والتحقيقات المرتبطة بفيروس كورونا ويرفضون الاستسلام لأحد، فقد لجأت بكين إلى الضغوط الاقتصادية لإجبار أستراليا على الرضوخ لها، لكن الأستراليون أثبتوا أن أحداً لا يستطيع التأثير عليهم، حتى أنهم أحرجوا الصينيين المهووسين بصورتهم العالمية.
قد يبدو الخلاف المستمر بين أستراليا والصين مسألة ثنائية في زاوية بعيدة من كوكب الأرض، لكنه يهمّ جميع دول العالم، فأستراليا حليفة أساسية للولايات المتحدة في آسيا، مما يعني أن تحركات الصين ضد هذا البلد تؤثر حتماً في سياسة واشنطن ومكانتها في المنطقة، كذلك، تمثّل أستراليا مجموعة من الدول الأخرى، فهي دولة متوسطة الحجم وتُعتبر علاقتها الاقتصادية مع بكين ضرورية لتحقيق النمو وتأمين فرص العمل، لكن بدأ السياسيون والمواطنون فيها يقلقون من تكتيكات الصين القمعية داخلياً وتحركاتها العدائية خارجياً.نتيجةً لذلك، يكشف تدهور العلاقة بين البلدَين معطيات كثيرة حول قدرة قادة الصين على استعمال قوتهم الدبلوماسية والاقتصادية المتزايدة، فضلاً عن الخيارات والعواقب والتكاليف المترتبة على الدول التي تقرر التصدي لبكين، مثل أستراليا، وفي هذا السياق، يقول جيفري ويلسون، مدير الأبحاث في «مركز بيرث الأميركي الآسيوي» المتخصص بالسياسة الخارجية: «يمكن اعتبار أستراليا مؤشراً تحذيرياً مبكراً حول ما يمكن أن يحصل، ويجب أن يهتم الجميع بما يحدث في هذا البلد لأن الوضع يعطي دروساً مهمة للجميع».لم يغفل البيت الأبيض عن أهمية أستراليا، فقد أعلن كبار الدبلوماسيين في فريق الرئيس جو بايدن دعمهم الصريح لأستراليا، وفي شهر مارس الماضي، قال الخبير في شؤون آسيا، كيرت كامبيل، إن الإدارة الأميركية أخبرت السلطات الصينية بأن الولايات المتحدة ليست مستعدة لتحسين العلاقات معها في سياق ثنائي ومنفصل فيما يخضع بلد حليف لها لأي شكل من الإكراه الاقتصادي، ثم أضاف أن واشنطن لن تترك أستراليا وحدها.بدأ الخلاف بين أستراليا والصين يحتدم منذ سنوات، فعلى غرار الولايات المتحدة ودول ديمقراطية أخرى، وافقت أستراليا على التواصل مع الصين، وأصبح البلدان جزءاً من علاقة تكافلية مربحة جداً، وباتت الثروات الطبيعية الأسترالية أساسية بالنسبة إلى القطاع الصناعي المتوسع في الصين، حتى أن البلدين عقدا اتفاقية تجارة حرّة في عام 2015، لكن تدهور الوضع حين بدأت كانبيرا تنزعج من السياسة الخارجية العدائية التي يطبّقها الرئيس الصيني شي جين بينغ.ثم انتقدت أستراليا صراحةً تجاوزات بكين في بحر الصين الجنوبي الذي يُعتبر ممراً أساسياً لعمليات الشحن الأسترالية، فقد بَنَت الصين هناك منشآت عسكرية على جزر من صنع البشر لترسيخ مطالبتها بكامل الممر المائي تقريباً، وفي عام 2018، منعت حكومة مالكولم تورنبول شركة الاتصالات الصينية العملاقة «هواوي» من تقديم المعدات إلى شبكات الجيل الخامس في أستراليا على اعتبار أن هذه الخطوة تطرح مخاطر أمنية كبرى على البنية التحتية الأساسية، ثم انهارت العلاقات الثنائية بالكامل في أبريل 2020، حين دعت حكومة رئيس الوزراء الراهن، سكوت موريسون، إلى إجراء تحقيق مستقل حول أصل فيروس كورونا: إنها مسألة شائكة في بكين حيث تُعتبر هذه المطالب جهوداً مسيّسة لتلطيخ سمعة الصين.ثارت حفيظة بكين أمام هذه التطورات، ولإجبار كانبيرا على التراجع، لجأت الحكومة الصينية إلى النهج الذي أصبح سلاحها الاختياري ضد الدول المتمردة: الإكراه الاقتصادي، فاتخذت السلطات الصينية تدابير عدة، منها تعليق تراخيص التصدير التي يملكها أهم منتجي لحوم البقر الأستراليين، وفرض تعريفات عقابية على الشعير والنبيذ، ومطالبة بعض محطات توليد الطاقة ومطاحن الفولاذ بوقف شراء الفحم الأسترالي، وفي المحصلة، خسرت أستراليا صادرات بقيمة 7.3 مليارات دولار خلال 12 شهراً، وتضررت صناعات معينة أكثر من غيرها: انهار قطاع الكركند الصخري الذي يتكل بالكامل على المطاعم الصينية بعدما منعت بكين استيراد هذا المنتج.مع ذلك، لم تغيّر كانبيرا مواقفها. قال تورنبول: «يجب أن نتمسك بقناعاتنا، إذا استسلمنا للمتنمرين، فسنضطر لتقديم تنازلات إضافية، ويمكن التناقش حول أساليب الدبلوماسية البارعة دوماً، لكن لا يمكن التنازل عن قيمنا ومصالحنا الأساسية».لم يضطر الأستراليون للتنازل، حتى الآن على الأقل، ولم تتمكن بكين من التسبب بألم كافٍ لإجبار كانبيرا على الاستسلام، حيث تكيّفت مجموعة صغيرة من الصناعات مع الوضع عبر تنويع قواعد عملائها، وأُعيد توجيه بعض مصانع الفحم المحظورة من الصين نحو عملاء في الهند، كذلك، بقيت الضغوط التي تستطيع بكين فرضها محدودة، إذ يبقى الحديد الأسترالي أساسياً في قطاع البناء الصيني، ويُعتبر الليثيوم الأسترالي أساس قطاع السيارات الكهربائية في الصين.لكن نجحت حملة الضغوط الصينية في تحقيق هدف واحد: تحريض الأستراليين ضد الصين، فوفق استطلاع جديد أجراه «معهد لوي»، قال 63% من المشاركين إنهم يعتبرون الصين تهديداً أمنياً أكثر مما هي شريكة اقتصادية لأستراليا (ارتفع هذا المعدل بنسبة 22% خلال سنة واحدة). في المقابل، يظن 4% من المشاركين فقط أن حكومتهم هي الملومة أكثر من بكين على تدهور العلاقات الثنائية.لم تتضح بعد طريقة حل الصراع، إذ يستمر الصدام بين الطرفين حتى الآن، وفي شهر أبريل ألغى وزير الخارجية الأسترالي اتفاقَين وقّعت عليهما حكومة ولاية فيكتوريا كجزءٍ من «مبادرة الحزام والطريق»، أي مشروع البنى التحتية المفضّل لدى شي جين بينغ، على اعتبار أن الاتفاقَين ينعكسان سلباً على علاقات البلد الخارجية، وفي شهر مارس علّق المسؤولون الصينيون حواراً اقتصادياً ثنائياً. لكن هذا المأزق يوضح في المقام الأول معلومة مهمة عن مكانة الصين في العالم، ففي نهاية المطاف، أدت محاولة بكين استعمال أستراليا لتحذير الدول الأخرى من تداعيات التصدي للقوة الصينية إلى تسليط الضوء على ضعف الصين.لا تزال الصين تتكل بشدة على العالم الخارجي لاستغلال ثقلها في الأسواق بالكامل، كما أنها تفتقر حتى الآن إلى الأدوات اللازمة لفرض قوتها خارج حدودها، كما تفعل الولايات المتحدة مثلاً حين تستفيد من تفوّق الدولار لتوسيع نفوذها، وبدل إخافة الحكومات الأخرى لإسكاتها، قد تؤدي الحملة الفاشلة ضد أستراليا إلى زيادة جرأة الدول للتصدي للصين في المسائل التي تعتبرها بالغة الأهمية.لكن تمكنت أستراليا من مواجهة بكين بفضل وحدتها السياسية، وهو درس أساسي من التجربة الأسترالية، حيث يتكلم خبراء السياسة دوماً عن أهمية التحالفات بين الدول في المنافسة المرتقبة مع الصين، لكن لا يمكن الحفاظ على تماسك تلك الروابط الدولية من دون وجود تحالفات مناسبة بين الأحزاب السياسية الوطنية والمصالح المشتركة في الديمقراطيات المتحالفة، ويمكن رصد هذا النوع من الإجماع في الولايات المتحدة، حيث يحظى الموقف القوي ضد الصين على دعم سياسي واسع.في الوقت نفسه، قد يؤدي خلاف الصين مع أستراليا إلى عواقب طويلة الأمد على مستوى روابطها الاقتصادية مع الدول الأخرى، وقد بدأ عدد كبير من صانعي السياسة يشعر بالقلق من أن يُضعِف الاتكال الاقتصادي على الصين أمنهم الوطني، وقد تؤجج تجربة أستراليا تلك المخاوف وتؤدي إلى إعادة تقييم المخاطر السياسية للعلاقات الاقتصادية مع الصين، وقد تصبح تجربة أستراليا قصة مفيدة عن اضطرار الحكومات والشركات حول العالم لإعادة تقييم عواقب أي علاقة اقتصادية مع الصين.لكن قد تظهر رسالة قاتمة أخرى من تجربة أستراليا: ربما فشلت الصين في تغيير أستراليا، لكنّ أستراليا لم تُغيّر الصين أيضاً، حيث ينذر هذا الوضع باحتمال مرعب يتعلق بقيام نظام عالمي جديد حيث تستمر الصراعات طوال الوقت، وإذا لم يكن الصراع عسكرياً، فقد يتخذ طابعاً اقتصادياً أو دبلوماسياً أو أيديوبوجياً، إلا إذا توصّل الطرفان إلى حل آخر.في النهاية، يقول جيف رابي، سفير أستراليا في بكين بين العامين 2007 و2011: «لطالما أساءت الصين التصرف وستتابع إساءة التصرف، ولن تتغير بكين مهما حصل، لذا يجب أن نجد طريقة فاعلة للتعايش مع الصين التي لا تشبهنا لكنها تبقى دولة كبيرة وقوية وقبيحة».
دوليات
الصين تكتشف حدود قوتها
20-08-2021